وقفَاتٌ مَع آياتِ النّهي عن الاختلاِف في القرآن

وقفات مع آيات النهي عن الاختلاف في القرآن (3)

(3) وقفَاتٌ مَع آياتِ النّهي عن الاختلاِف في القرآن ، قولُ الله تعالى : ((وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِن بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ)) ، وهَل هي مِن قبيل اختلافِ المُجتهِدين .

بسم الله ، والحمدلله ، وسلامٌ على عباده الذين اصطفى ، وبعد :

سبق وقرّرنا -بكل هُو معلومٌ لصاحب نظَر- أنّ الآيَةَ ؛ سِياقٌ ، فإذاِ لم يفَهم المُتدبّرُ السّياق ، وأصبحَ يجتزئُ الآياتِ ؛ فإنّ قراءته ستكونَ لا جرَم خَداجٌ ، وهذا الفِعلُ لا يجوزُ لمُسلِمٍ يتّقي الله حقّ تُقاِته أن يكونَ عليه ، وَخُلقٌ في العِلم ذميمٌ ، ولمّا كُنتُ وقفتُ على قولِ الله تعالى : ((وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِن بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ)) [آل عمران:19] ؛ وجدتُ البعضَ -بتقصيرِ نظَر وتضعّف- يُريدُ أن يُصادرَ بهذا أصلَ الاجتهاد ، والاختلافِ الآتِي منه بين أئمّة وعُلماء أهل البيتِ -عليهم السلام- ؛ يُريدُ أنّهم بهذا قد وقَعوا في محظورٍ لمّا كانَ ذلك مِنْ حالِهم اختلافٌ في مادّة الاجتهاد في فُروع الشّريعَة ، والقرآن يردّ الاختلاف من الآيَة المذكورَة . ونحن إذا تكلّمنا عن الاجتهاد ؛ فهُو الاجتهاد الشّرعي الصّحيح المُنضبطُ بأدلّة الشّرع وطريقتِه ، وليسَ هُو الرّأي الذي يكونُ من خَارج الشّرع ، فذلك العترةُ مُجمعون على ذمّه ، كما أنّ صاحب الشّبهة أو المُعترض قد أبعدَ عندما جعَل الآيَة رافعةً لأصل الاجتهاد وما يتبُعه من التّفاوت في النّظر .

ونُدلّل على ذلك من خلال عدّة مقدّمات يترتّب بعضها على بعض :

– المقدّمة الأولَى : تقفُ فيها على أنّ وجهاً من وجوه الاختلاف ؛ هُو ذلك الاختلاف الذي وقعَ فيه أهل الكِتاب من اليّهود والنّصارَى والذي كان أصلُه تحريفٌ تختلقُه الأهوَاء بإنقاصٍ لآياتِ كُتب أنبيائهم ، أو تحريفٍ لمعانيها إلى وجوهٍ يطلبونَ بها الدّنيا ، فذلك منهُم اختلافٌ على القرآن وعلى كتب أنبيائهم ، واختلافٌ بينَهم ؛ قد خرجَ عن حدّ الاجتهادِ الذي هُو منضبطٌ بالورَع وبالبقاء تحتَ بيّنات الشّرائع ، ولذلك الله تعالى يصفُ عِلَل اختلافِهم بالبَغي وبالكِتمَان ، وهذا الضّربُ من الاختلاف في أمّة سيّدنا محمّد -صلوات الله عليه وعلى آله- فإنّه يكونُ مِن قبيل اختلافِ أهل الكتاب من اليهود والنصارى في الذمّ والإنكَار ، وليسَ من قَبيل الاجتهاد المُراد والتّفاوت في تتبّع الأدلّة ووجوهها على المسائل الفُروعيّة ، فالاختلاف الأوّل يترتّب عليه ضلالٌ مقطوعٌ ، والثّاني فإنّه لا يكونُ من قبيل الضّلال ما دامَ مُنضبطاً بالاجتهاد الصّحيحِ ، صاحبُه على صفَة الورَع .

– المقدّمة الثّانية : نأتي فيها على سِياق الآيَة تامّاً لنقفَ على ماهيّة الاختلافِ المُراد في الآيَة ، فيقولُ الله تعالى : ((إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ ۗ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِن بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ ۗ وَمَن يَكْفُرْ بِآيَاتِ اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ * فَإِنْ حَاجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ ۗ وَقُل لِّلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ ۚ فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوا ۖ وَّإِن تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ ۗ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ * إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ *أُولَٰئِكَ الَّذِينَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمَا لَهُم مِّن نَّاصِرِينَ)) [آل عمران:19-22] .

– المقدّمة الثّالثة : تقفُ فيها على أنّ المَقصودِين في الآيَة هُم أهل الكتاب -اليهودُ والنّصارَى- ، قولِ الله تعالى : ((وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ)) ، ثمّ لو تأمّلنَا علّة الاختلافِ التي أدّت بهم إلى الاختلاف ؛ لوجدَتا أنّها علّةً ليسَت هي منِ عِلل الاختلاف في الاجتهاد المُنضبط ببيّنات الشّرع وطريقتِه ، وبيّنات الشّرع فهي طريقُته القائمَة على التحرّز والتشدّد في تقديمِ قولِ الله تعالى ورسولِه على أهواء النّفس ، وإن حصَل بعد ذلك تَفاوُت نظَرٍ بينَ أهل العِلم المُتورّعين ، وليسَ هذا هُو الاختلاف الذي ذمّه الله تعالى من حالِ أهل الكِتاب في علّته ، فإنّه اختلافٌ آتٍ من البَغي ، اختلافٌ بعد معرفَة ((إِلَّا مِن بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ)) ، آتٍ من بغيِ بعضهِم على بعضٍ ، من الاختلاف على كُليّات شَرائعِهم ، من الاتّباع لأهوائهِم ، من التأكّل بالباطِل ، ومن التّلبيس وإرضَاء الحُكّام ، والرّد بيَّنات شَرائِعهم ، والتحزّب بكتُب أنبيائهم يلوونهَا لتكون على أهوائِهم ، فيقولُ الله تعالى يُبيّن ذلك من حالِ اختلافِهم : ((بَغْيًا بَيْنَهُمْ)) ، وما هذا حالُه فموضوعُه أصول الدّين والشّرائع وكليّاتُها ، وما هذا حالُه فليسَ هُو من قِبيل اختلافِ المُجتهدِين من أئمة العترَة -عليهم السلام- لأنّهم على أصولٍ واحدة في الدّين والشّريعة ، وهُم على صفَة الورَع والتحرّز في تتبّعهم لوجوه المَدلولات الشرعيّة وإن تفاوتوا في النّظر ، فلا يترتّب على اختلافِهم ضلالٌ أو هلاكٌ ، وليسَ ذلك اختلافُ أهل الكِتاب في الآية وقد وصفَه الله تعالى بالبَغي ، وهذا معه دلالةٌ في التعمّد ، ودلالةٌ على اتّباع الأهواء ، تقديمها على تقوى الله والتحرّز والتثبّت .

– المقدّمة الرّابعة : يقفُ فيها النّاظر ، إلى أنّ الآيَة وإن كانَ خطابُها في أهل الكِتاب من الأمم السّابقة ؛ إلا أنّها ماضيةٌ فيمَن كانَ حالُهم كحالِهم من هذه الأمّة المحمديّة ، فمَن كان سبيلُه في الاختلاف هُو البَغي ، وشاركَ أهل الكِتاب في طريقتِهم التي تعدّوا بها ومعها بيّنات شرائِعهم ، ونصوص كُتبهم البينة ؛ إلى أهواء أنفسهِم ، ولم يكونوا على صفة الورَع والتّقوى ، وكَانت أهواء النّفس عاملةً فيهم ، وطاعَة الحكّام والتنفّذ على العِباد ؛ بتحريف شرائع الله تعالى ؛ فإنّ حَال هؤلاء في أمّتنا هُو حالُ الأمم السّابقة ، ففي الآية تذكرةٌ لمن يتدبّر وخير واعظٍ للانقياد حُسن الاتّباع للشّرع كتاباً وسنّة ، وتقديمِ قول الله ورسولِه -صلوات الله عليه وعلى آله- على كلّ هوىً أو محضٍ رأيٍ وهوى ، أو عن اتّباع المُتشابهات ابتغاء الفتنة وتضليل النّفس والعِباد .

وبهذا المقدّمة أختمُ هذه الوقفة مع هذه الآيَة ؛ ليكون الناّظر أقرب إلى الفَهم والتّفريق -بإذن الله تعالى- وهُو يقفُ على حال من يُريدُ تعميم الذّم في الاختلاف ؛ ليُدخل مادّة الاجتهاد والاختلاف فيه ؛ بأنّه من قبيل اختلاف الأمم الماضيَة على كُتب أنبيائهم ممّن كانت علّة اختلافِهم وقولِهم بالخلاف هُو البغي، ولن يقولَ بهذا عند التّحقيق إلاّ مَن يجهَل الاجتهاد وحقيقته وضَوابطَه ، فيتنبّه ناظرٌ ، والحمدلله ، وصلّى الله وسلّم على سيّدنا محمّد وعلى آله في العالَمين .

وكتَبه : الكاظم الزّيدي ، غفر الله له ولوالديه ولذرّيته ، وللمؤمنين ، آمين .

يوم الثلاثاءالموافق 3 شوال 1441هـ

26 مايو 2020 م

وقفَاتٌ مَع آياتِ النّهي عن الاختلاِف في القرآن

وقفات مع آيات النهي عن الإختلاف في القرآن (2)

(2) وقفَاتٌ مَع آياتِ النّهي عن الاختلاِف في القرآن ، قولُ الله تعالى : (( وَأَنزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ)) ، وقولِه تعالى : ((وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِن بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ)) ، وقوله تعالى : ((فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ)) ، وهَل هي مِن قبيل اختلافِ المُجتهِدين .

بسم الله ، والحمدلله ، وسلامٌ على عباده الذين اصطفى ، وبعد :

سبق وقُلنا أنّ الآيَةَ ؛ سِياقٌ ، فإذاِ لم يفَهم المُتدبّرُ السّياق ، وأصبحَ يجتزئُ الآياتِ ؛ فإنّ قراءته ستكونَ لا جرَم خَداجٌ ، وهذا الفِعلُ لا يجوزُ لمُسلِمٍ يتّقي الله حقّ تُقاِته أن يكونَ عليه ، وَخُلقٌ في العِلم ذميمٌ ، ولمّا كُنتُ وقفتُ على قولِ الله تعالى : ((وَأَنزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ)) [البقرة:213] ؛ وجدتُ البعضَ -بتقصيرِ نظَر وتضعّف- يُريدُ أن يُصادرَ بهذا أصلَ الاجتهاد ، والاختلافِ الآتِي منه بين أئمّة وعُلماء أهل البيتِ -عليهم السلام- ؛ يُريدُ أنّهم بهذا قد وقَعوا في محظورٍ لمّا كانَ ذلك مِنْ حالِهم اختلافٌ في مادّة الاجتهاد في فُروع الشّريعَة ، والقرآن يردّ الاختلاف من الآيَة المذكورَة . ومن قولِه تعالى : ((وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِن بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ)) [البقرة:213] ، وكذلك من قولِ الله تعالى : ((فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ)) [البقرة:213] ، فتوَهّمَ البعضُ أنّ في أصل الاجتهاد والاختلاف الآتي بعدَه في فُروع الشّريعة ؛ وجهاً من هذا الاختلاف المذمومِ ، ونحن إذا تكلّمنا عن الاجتهاد ؛ فهُو الاجتهاد الشّرعي الصّحيح المُنضبطُ بأدلّة الشّرع وطريقتِه ، وليسَ هُو الرّأي الذي يكونُ من خَارج الشّرع ، فذلك العترةُ مُجمعون على ذمّه ، كما أنّ صاحب الشّبهة أو المُعترض قد أبعدَ عندما جعَل الآيَة رافعةً لأصل الاجتهاد وما يتبُعه من التّفاوت في النّظر .

ونُدلّل على ذلك من خلال عدّة مقدّمات يترتّب بعضها على بعض :

– المقدّمة الأولَى : تقفُ فيها على أنّ وجهاً من وجوه الاختلاف ؛ هُو ذلك الاختلاف الذي وقعَ فيه أهل الكِتاب من اليَهود والنّصارَى والذي كان أصلُه تحريفٌ تختلقُه الأهوَاء بإنقاصٍ لآياتِ كُتب أنبيائهم ، أو تحريفٍ لمعانيها إلى وجوهٍ يطلبونَ بها الدّنيا ، فذلك منهُم اختلافٌ على القرآن وعلى كتب أنبيائهم ، واختلافٌ بينَهم ؛ قد خرجَ عن حدّ الاجتهادِ الذي هُو منضبطٌ بالورَع وبالبقاء تحتَ بيّنات الشّرائع ، ولذلك الله تعالى يصفُ عِلَل اختلافِهم بالبَغي وبالكِتمَان ، وهذا الضّربُ من الاختلاف في أمّة سيّدنا محمّد -صلوات الله عليه وعلى آله- فإنّه يكونُ مِن قبيل اختلافِ أهل الكتاب من اليهود والنصارى في الذمّ والإنكَار ، وليسَ من قَبيل الاجتهاد المُراد والتّفاوت في تتبّع الأدلّة ووجوهها على المسائل الفُروعيّة ، فالاختلاف الأوّل يترتّب عليه ضلالٌ مقطوعٌ ، والثّاني فإنّه لا يكونُ من قبيل الضّلال ما دامَ مُنضبطاً بالاجتهاد الصّحيحِ ، صاحبُه على صفَة الورَع .

– المقدّمة الثّانية : نأتي فيها على سِياق الآيَة تامّاً لنقفَ على ماهيّة الاختلافِ المُراد في الآيَة ، فيقولُ الله تعالى : ((سَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ كَمْ آتَيْنَاهُم مِّنْ آيَةٍ بَيِّنَةٍ ۗ وَمَن يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللَّهِ مِن بَعْدِ مَا جَاءَتْهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ * زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا ۘ وَالَّذِينَ اتَّقَوْا فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ۗ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَن يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ * كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ وَأَنزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ ۚ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِن بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ ۖ فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ ۗ وَاللَّهُ يَهْدِي مَن يَشَاءُ إِلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ)) [البقرة:211-213] .

– المقدّمة الثّالثة : تقفُ فيها على أنّ المَقصودِين في الآيَة هُم الأُمَم السّابقَة ، فيقولُ الله تعالى : ((كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً)) ، أي على طريقَة واحدَة بعد آدَم -عليه السّلام- ، فاختَلفوا ، وذلكَ من مدلولِ بعثَة الأنبياء ؛ فإنّه لخلافٍ سابقٍ ، وذلكَ الخِلافُ لا بدَّ خلافاً معَه ضلالةٌ وكُفرٌ عندَ الله تعالى ، ((فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ)) ، يصدعُون بالبَلاغ والإنذَار ليرفعُوا الجَهالات والكُفر ، ويثبّتوا التّوحيد والإيَمان طريقَة آدَم -عليه السلام- والمُؤمنين ِمنْ بعدِه ، ((وَأَنزَلَ مَعَهُمُ)) ، أي الأنبياء المُتعاقبِين في الأُمَم ، ((الْكِتَابَ)) ، أي كُتباً من عندِه ، فاللام هُنا جِنسيّة ، يدخُل تحتها كلّ الكُتب الإلهيّة التي أنزلها على أنبيائه المُتعاقِبين على الأمُم والأزمان ، الزّمان بعد الزّمان ، وهذه الكُتب كلّها على أصولٍ واحدَةٍ في الاعتقاد فكلّها نزلَت ((بالحقِّ)) ، وإن كانَ في فُروع الشّريعَة بينَها اختلافٌ في الأقوامِ حسبَ المَصالح الإلهيّة والحكمَة التي أرادَها الله تعالى وكذلك سنّة الابتلاء ، ثمّ ذلك الكِتابُ-والمُراد به كُتب الأنبياء التي أنزلها الله إليهم- جعلَه الله تعالى ((لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ)) ، فهُو بمثابَة مَا يرجعُ إليه أهل العِلم بعد وفاة أنبيائهِم ، فإنّ تلك الكُتب فيها البيّنات التي يجبُ عليهم اتّباعها ، وفيها المنهج ومنظومَة الهُدَى تامّةً ليقوموا من خلالها بالحُكم بين النّاس ، وإخبارِهم بأمرِ الله تعالى ونَهيهم ، وهذا فيه فائدَةٌ في أنّ كُتبَ الله تعالى واجدَةٌ للهُدَى ليسَت تحتاجُ معها إلى الأنبياء والرّسل في كلّ زمَانٍ -بعد البيان الأوّل من أنبيائهم- إذا كانَت محفوظةً من التحريف والتبديل والزّيادة والنّقصان ، فإنّها تكونُ بيّنةً يحكمُ بها ومَعها أهل العِلم من أتباع الأنبياء على مرّ الأزمَان بالحقّ والهُدَى وترتفعُ عنهم الضّلالة ، ولذلك قال الله تعالى : ((وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُواْ التَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ وَمَا أُنزِلَ إِلَيهِم مِّن رَّبِّهِمْ لأكَلُواْ مِن فَوْقِهِمْ وَمِن تَحْتِ أَرْجُلِهِم)) ، إذ لو كانوا على هذه الصّفة لآمنوا بنبيّنا الخاَتم -صلوات الله عليه وعلى آله- لأنّها تدلّ عليه وعلى صفَتِه ودعوتِه وتحضّ على الإيمَان به والكون من أمّته وَأصحابِه ؛ إلاّ أنّهم زادوا ونقّصوا وحرّفوا المَعاني ، ثمّ إنّ الله تعالى في أمّتنا المحمديّة قد رفعَ موجبات ذلك التّحريف وطبيعَة تلك الكُتب التي كان يُرسلها مع أنبياء الله السّابقين عندما أرادَ أن يكونَ نبيّنا محمّد -صلوات الله عليه وعلى آله- هُو خاتم الأنبياء والمُرسلين ؛ فإنّ الله جعَل القُرآن على صفَةٍ غايرَت سائر الكُتب التي كانَ يترَى ويتعاقَب بعدها الأنبياء والرّسل لإصلاحِ ما حرّفه -كُفراً- الأقوامُ السّابقون ؛ فكانَ القرآن محفوظاً عن الزّيادَة والنّقصان ، وكانَ القرآنُ على صفَة الإحكَام والإعجاز العظيمِ الذي كان بذاتِه مُعجزةً خالدةً يُخاطبُ الله بها الأمم إلى يوم القيامَة تُغني عن الأنبياء والرّسل في الهدايَة والمعرفَة بعدَ بيان النّبي الأمّي الأمين -صلوات الله عليه وعلى آله- الذي كان توفيقُ الله تعالى قائمٌ بحفظِه إلى الأمُم بعد الأممُ بأهل البيت -عليهم السلام- والمُؤمنين ، وتلك هي السنّة المحمديّة ، وكان القرآنُ تُعودُ مُحكماتهُ تُهيمنُ على المعاني الفاسدَة التي قد يفهُمها أو يُحرّفها في المعنى أهل الأهواء من هذه الأمّة ؛ فلا يكونُ هذا القرآن إلاّ على صفَة الدّلالة على الهُدَى لا يستطيعُ أحدٌ أن يُغيّر أو يُبدّل فيه من تلقاء نفسه أو يُعكِّسَ مُحكماته أو يُبدّل في آياتِه ، وما يفعلُ ذلكَ إلاّ وهُو على طريق الاختلافِ بغياً وعُدواناً وشِقاقاً واستحقاق ضَلالة ؛ فيحقّ عليه صفَة الأقوامِ السّابقين في صفَة الاختلاف ، وليسَ من هذه الطّريقة أصل الاجتهاد والاختلاف الآتي منه ، فهذا في فُروع الشّريعة مُنضبطٌ انضباطاً تامّاً ببيّنات الشّريعة المحمديّة ، ثمّ في هذا لفتةٌ مهمّة للباحثِ يرفعُ معها قول الإماميّة ومنْ قال بقولِهم في ضرورة بقاء المَعصوم للبيَان ، فإنّ ذلكَ آتٍ من كونِ القرآن غير كافٍ في الهداية مع ذلك البيان الأوّلي الذي قامَ به نبيّ الله -صلوات الله عليه وعلى آله- وما مات إلاّ متمّاً له ، شهدَ الله لهُ بذلك ، مُرتضياً نعمته على المُؤمنين . ثمّ هؤلاء الإمامية من اثني عشر قرناً ليسَ معهم إمامٌ معصومٌ وإنّما القرآن بين أيديهم ثمّ هُم لا يرونَ أنّهم على ضلالةٍ ، ويرونَ أنّ القرآن منهجٌ في الهدايَة ، وهذا فُيفسدُ أصلَهم الذي عليه بَنوا أصل العصمَة كشرطٍ في الإمام ؛ لمّا كانت الهداية مُمكنةٌ بدونِه ، والضّلالة كذلك مُرتفعةٌ بدونِه ، ومَن يقولُ من غُلاتهم اليَوم وأصحاب النّظر الفاسدِ بأنّه لا يُمكن معرفة القرآن إلاّ بالإمام أو الرّسول -فمن تحت عباءتهم خرجَ من يقول أنّ مبعث الرّسل لم يتوقّف- فهذا الله تعالى يُكذّبهُم فيه ، ويجعلُ الكُتب حاكمَة في البيان على الهُدَى والدّلالة عليه ؛ تدلّ المُكلّفين وأهل العلم ، فقال تعالى بعد أن أخبر أنّه أنزل الكتاب -أي كُتب الأنبياء بعُموم- بالحقّ : ((لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ)) ، فكُتب الله حاكمةٌ ، ومرجعٌ ، وفيها الفصلُ لمَن كانَ على طريقةٍ في العلم أصيلَة .

ثمّ يُخبرُ الله تعالى عن تمام حالِ الأمم ، ومرحلة أخرى بعد إنزال الكُتب على الأنبياء ، فإنّ تلك الكُتبُ حاكمةٌ رافعةٌ للضّلال إذا قد وطّنَ أتباع الأنبياء الخضوع لأمرِ الله تعالى المُودع فيها ، وكانت طريقتهم في العلم ليست طريقَة أهل الأهواء ، بل الوَرع والتّقوى ، فأخبرَ الله تعالى بحال المُختلفين بعد أن أنزلَ الكتاب -أي كُتب الأنبياء- في الأمُم الماضيّة ، ما هُو وجهه وعلّته وسببُه وأصلُ ذمّه ؟!. فقال جلّ شأنه : ((وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ)) ، أي الكِتاب -كُتب الأنبياء- بعدَ أن جعلَه الله تعالى : ((لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ)) ، فإنّ هؤلاء المُختلفِين هُم ممّن أُنزِلَ عليهم ذلك الكِتاب في أزمانِهم ، بل وإنّهم قد أوتوا عِلمه -بمعنى كانوا عالِمين به وبمقاصدِه في الهِدايَة- ثمّ كانوا مع ذلك على صفَة تعمّد المُخالفَة ، فقال جلّ شأنه : (( وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِن بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ)) ، على لسان أنبيائهم علموا ذلك من هديهِم وبلاغهِم ، وعلموا ذلك من كُتب أنبيائهم ، إلاّ أنّهم مع ذلك اختلفوا في الكِتاب -كُتب أنبيائهم- ((بَغْيًا بَيْنَهُمْ)) ، تنافُساً في حُظوظ الدّنيا ، بعد العِلم بالمقاصِد ، ولمكان العَداوات والحَسَد وحبّ الدّنيا يُصرّون على الباطِل في أنفسِهم ويُحرّفون معاني آيات كُتب أنبيائهم لما يُغاير الحقّ ويُخالفه ممّا أصلُه اختلافٌ أوقعهم في الضّلالة والكُفر والبُعد عن أصل الهِدايَة ، وليسَ الاختلافُ الحاصل من أصل الاجتهاد من هذا القبيل الذي كانَ عليه بعض أصحاب الأنبياء في الأمم السّابقة -ووجهه البَغي والتعمّد وتنافُس الدّنيا- ، وليسَ معه الخُروج على بيّنات النّبي الخاَتم -صلوات الله عليه وعلى آله- ولا على مُحكمات الشّريعَة ولا نصوصِها ، بل إنّ أصل الاجتهاد قائمٌ على التشديد في النّظر في طلب مُوافقة المُراد من النّصوص القرآنيّة والنبويّة ، أصلُه قائمٌ على نبذ رأي النّفس وهواها ، ومَن كانت هذه صفته في اتّباع الأهواء فليسَ خلافُه من قبيل خلافِ المُجتهدين ، بل خلافُه من قبيل خلاف اليهود والنّصارى والمتعدّين على بيّنات الله تعالى وعلى أوامره جلّ شأنه ، فليُفرّق ناظرٌ .

ثمّ يُخبرُ الله تعالى عن هذه الأمّة المحمديّة ، وعن المُؤمنين بالنّبي -صلوات الله عليه وعلى آله- ، فيقول جلّ شأنه : ((فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا)) ، بالنّبي والقرآن -وقد يدُخل في عُموم المُخبتين المؤمنين بكُتب الأنبياء السّابقين ، فالوجهُ واحدٌ- ؛ ((لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ)) ، فإنّ القرآن يُبيّن ما اختلفَ فيه المُختلفون من الأمم السّابقة على كُتب أنبيائهم بغياً وعُدواناً ، ثمّ إنّ من بقي على صفَة التّقوى -من أصحاب الأنبياء السّابقين- ولم يكُونوا من أهل البَغي الذي كان عليه أصحابُهم ، ولم يكُونوا من أهل الاختلافِ بالباطِل على كُتب أنبيائهم ؛ فإنّهم يهتدون إلى دعوة نبيّنا محمّد -صلوات الله عليه وعلى آله- ويؤمنون أنّ القرآن قد أتى يُصدّقُ ما بين أيديهم من التّوراة والإنجيل حقّاً ؛ فهُم يؤمنون بالله وبالرّسول -صلوات الله عليه وعلى آله- ، وذلك أنّ هؤلاء جعلوا كُتب أنبيائهم حاكمةً عليهم ، ثمّ لما كانت حاكمةً عليهم ؛ فإنّهم وصلوا إلى الهداية الحقّة والتصديق بالنّبي والقرآن وهذا معنى قوله تعالى : ((لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ)) ، فإنّهم عندما جعلوا القرآن حاكماً على أهوائِهم لم يقعوا فيمَا وقعَ فيه أهل الاختلاف المذموم -من التفرّق على الحقّ- الذي علّته البغي وتعمّد المخالفة لهَدْي كُتب أنبيائهم ؛ فلم يقعوا في ذلك وائتمروا بأمر كُتب أنبيائهم ، فآمنوا بالحقّ ، وهذا فيه دلالة على أنّ كُتب الله فيها الهداية لمن ائتمرَ بها وانتهى عن مناهيها ؛ ولم يجعل لهوَاه طريقاً ، وأنّ من رتّب معرفة الهُدَى من كُتب الله على وجود المَعصومين فإنّه قد أبعدَ وخالفَ القرآن ؛ فإنّ الله جعلَ الكُتب حاكمةً في الدّلالة فيها الهدي تامّاً فقال جلّ شأنه في الكُتُب : ((لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ)) ، وقال عن القرآن الكريم : ((وَهَذَا كِتَابٌ مُّصَدِّقٌ لِّسَاناً عَرَبِيّاً لِّيُنذِرَ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَبُشْرَى لِلْمُحْسِنِينَ)) ، فالقرآنُ فيه الهُدَى والنّور وفيه الإنذار والبشارَة ، يُعرف به الحقّ والمُحقّون ، ويُعرَف به ما أصلُه اختلافٌ من قبيل اختلاف الأمم الماضيَة بالبغي والعُدوان ، وما وجهه الاختلاف الآتِي من التعبّد بالنّظر وأصلُه الاجتهاد ويكون فيه المؤمنُ مُخلصاً لله نفسه أن لا يتعدّى طريقة الشّرع في المعرفة والاستنباط . والهداية فتوفيقٌ وتنويرٌ لمَن أخلصَ لله تعالى، كما هدَى سلمان الخَير الفارسيّ ، وَمنْ آمن من اليهود ، ومن كانت سيرتُه الإخلاصُ من هذه الأمّة المحمديّة بعُموم ، وعلى رأسِ أولئك أهل البيت سادات بني الحسن والحسين -عليهم السلام- فإنّهم لُطفٌ في المعرفَة للقرآن ، يجدُ عندَهم النّاظر ما ترتفعُ به الضّلالة ، لا على أصل أنّ معرفة القرآن غير مُمكنة إلاّ بهِم ، بل على أصلِ أنّ هَدْي القُرآن لن يَخرُج عن طريقتِهم ومنهجِهم وقولِهم ؛ فيلتطفُ المكلّفون من الفهم الخاطئ للقرآن بعرضِ أنظارهم على قول العترة وطريقتِهم ، فهُم هُداةٌ للأمّة ، وليسَ منْ مُلازمة بين الضّلال وبين الاختلاف في الاجتهاد في فروع الشّريعة إلاّ عندَ مَنْ كان فهمهُ فهماً سقيماً ، ولم يقف على منظومة الهُدَى الصّحيحة من طريقة القرآن والشّريعة المحمديّة ، فإنّما الضّلال المُضادّة لبيّنات الشّرائع وأدلّتها ؛ فيتفّهمُ ذلك ناظرٌ .

– المقدّمة الرّابعة : يقفُ فيها النّاظر ، إلى أنّ الآيَة وإن كانَ خطابُها في أهل الكِتاب من الأمم السّابقة ؛ إلا أنّها ماضيةٌ فيمَن كانَ حالُهم كحالِهم من هذه الأمّة المحمديّة ، فإنّ اختلاف بني أميّة وشيعتِهم في القرآن والشّرع بعُموم وتأويلِه بغياً ، وكذلك من يتّبع مُتشابهات القرآن يختلفون في القرآن يبتغون الفتنة ؛ وكذلك يُخالفون أهل بيت نبيّهم وطريقتهم وإجماعهم ، فإنّ ذلكَ من الاختلاف الذي لا يكونُ صاحبُه فيه على المنهج السّوي والطّريقة المحمديّة التي رتّب الله عليها الفَلاح .

وبهذا المقدّمة أختمُ هذه الوقفة مع هذه الآيَة ؛ ليكون الناّظر أقرب إلى الفَهم والتّفريق -بإذن الله تعالى- وهُو يقفُ على حال من يُريدُ تعميم الذّم في الاختلاف ؛ ليُدخل مادّة الاجتهاد والاختلاف فيه ؛ بأنّه من قبيل اختلاف الأمم الماضيَة على كُتب أنبيائهم ممّن كانت علّة اختلافِهم وقولِهم بالخلاف هُو البغي، ولن يقولَ بهذا عند التّحقيق إلاّ مَن يجهَل الاجتهاد وحقيقته وضَوابطَه ، فيتنبّه ناظرٌ ، والحمدلله ، وصلّى الله وسلّم على سيّدنا محمّد وعلى آله في العالَمين .

وكتَبه : الكاظم الزّيدي ، غفر الله له ولوالديه ولذرّيته ، وللمؤمنين ، آمين .

يوم الاثنين الموافق 2 شوال 1441هـ

25 مايو 2020 م

وقفَاتٌ مَع آياتِ النّهي عن الاختلاِف في القرآن

وقفات مع آيات النهي عن الإختلاف في القرآن (1)

(1) وقفَاتٌ مَع آياتِ النّهي عن الاختلاِف في القرآن ، قولُ الله تعالى : ((وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُواْ فِي الْكِتَابِ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ)) ، وهَل هي مِن قبيل اختلافِ المُجتهِدين .

بسم الله ، والحمدلله ، وسلامٌ على عباده الذين اصطفى ، وبعد :

الآيَةُ ؛ سِياقٌ ، فإذاِ لم يفَهم المُتدبّرُ السّياق ، وأصبحَ يجتزئُ الآياتِ ؛ فإنّ قراءته ستكونَ لا جرَم خَداجٌ ، وهذا الفِعلُ لا يجوزُ لمُسلِمٍ يتّقي الله حقّ تُقاِته أن يكونَ عليه ، وَخُلقٌ في العِلم ذميمٌ ، ولمّا كُنتُ وقفتُ على قولِ الله تعالى : ((وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُواْ فِي الْكِتَابِ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ)) [البقرة:176] ؛ وجدتُ البعضَ -بتقصيرِ نظَر وتضعّف- يُريدُ أن يُصادرَ بهذا أصلَ الاجتهاد ، والاختلافِ الآتِي منه بين أئمّة وعُلماء أهل البيتِ -عليهم السلام- ؛ يُريدُ أنّهم بهذا قد وقَعوا في محظورٍ لمّا كانَ ذلك مِنْ حالِهم اختلافٌ في مادّة الاجتهاد في فُروع الشّريعَة ، والقرآن يردّ الاختلاف من الآيَة المذكورَة . ونحن إذا تكلّمنا عن الاجتهاد ؛ فهُو الاجتهاد الشّرعي الصّحيح المُنضبطُ بأدلّة الشّرع وطريقتِه ، وليسَ هُو الرّأي الذي يكونُ من خَارج الشّرع ، فذلك العترةُ مُجمعون على ذمّه ، كما أنّ صاحب الشّبهة أو المُعترض قد أبعدَ عندما جعَل الآيَة رافعةً لأصل الاجتهاد وما يتبُعه من التّفاوت في النّظر .

ونُدلّل على ذلك من خلال عدّة مقدّمات يترتّب بعضها على بعض :

– المقدّمة الأولَى : تقفُ فيها على أنّ وجهاً من وجوه الاختلاف ؛ هُو ذلك الاختلاف الذي وقعَ فيه أهل الكِتاب من اليّهود والنّصارَى والذي كان أصلُه تحريفٌ تختلقُه الأهوَاء بإنقاصٍ لآياتِ كُتب أنبيائهم ، أو تحريفٍ لمعانيها إلى وجوهٍ يطلبونَ بها الدّنيا ، فذلك منهُم اختلافٌ على القرآن وعلى كتب أنبيائهم ، واختلافٌ بينَهم ؛ قد خرجَ عن حدّ الاجتهادِ الذي هُو منضبطٌ بالورَع وبالبقاء تحتَ بيّنات الشّرائع ، ولذلك الله تعالى يصفُ عِلَل اختلافِهم بالبَغي وبالكِتمَان -كما سيأتي في وقفاتٍ قادمةٍ إن شاء الله- ، وهذا الضّربُ من الاختلاف في أمّة سيّدنا محمّد -صلوات الله عليه وعلى آله- فإنّه يكونُ مِن قبيل اختلافِ أهل الكتاب من اليهود والنصارى في الذمّ والإنكَار ، وليسَ من قَبيل الاجتهاد المُراد والتّفاوت في تتبّع الأدلّة ووجوهها على المسائل الفُروعيّة ، فالاختلاف الأوّل يترتّب عليه ضلالٌ مقطوعٌ ، والثّاني فإنّه لا يكونُ من قبيل الضّلال ما دامَ مُنضبطاً بالاجتهاد الصّحيحِ ، صاحبُه على صفَة الورَع .

– المقدّمة الثّانية : نأتي فيها على سِياق الآيَة تامّاً لنقفَ على ماهيّة الاختلافِ المُراد في الآيَة ، فيقولُ الله تعالى : ((إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتَابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا ۙ أُولَٰئِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلَّا النَّارَ وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ * أُولَٰئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَىٰ وَالْعَذَابَ بِالْمَغْفِرَةِ ۚ فَمَا أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ * ذَٰلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ نَزَّلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ ۗ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتَابِ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ)) [البقرة:174-176] .

– المقدّمة الثّالثة : تقفُ فيها على أنّ المَقصودِين بالكِتمان في الآيَة ، وبالمُختلفِين في الكِتاب -وهو القرآن- ، هُم اليهود والنّصارى ؛ أهل الكتاب ، والمَعنيون والمُخاطبون بالآيَة في الاختلافِ فهُم أهل الكِتاب وليس المعنيّون هُم المؤمنون ، قال الطّبرسي من الإماميّة : ((المَعني في هذه الآية : أهلُ الكتاب ؛ بإجمَاع المفسرين ؛ إلا أنّها مُتوجهة على قول كثير منهم إلى جَماعة قليلة مِن اليهود وهُم عُلمَاؤهم كَكعب بن الأشرَف وحُيي بن أخطب ، وكَعب بن أسَد)) [مجمع البيان:1/477] ، وإنّما ذكرنا قول الطّبرسي لمكان علاقة المادّة بالإمامية وَمن قال بقولِهم في العصمة ، فكانَ من أولئك كِتمان صفَة النبوّة في نبيّنا محمّد -صلوات الله عليه وعلى آله- والبشارَة به ، وذلك بعد أنّ قصّ الله تعالى في القرآن أخبَار ما أنزلَ على أهل الكِتاب في كُتبهم التي أنزلت على أنبيائهم ، فاختلفَ اليهود والنّصارى على آياتِ القرآن في البشارَة وكذا اليهود ، فأخبر الله تعالى أنّ الضّلال والشّقاق والبُعد عن الحقّ والمُخالفَة عليه مُخالفة عظيمَة ، وأنها منهم واقعة ، فقال جلّ شأنه : ((وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتَابِ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ)) ، وأخبر أنّ الحقّ والقول الفَصل فيمَا جاءت به كُتبهم وما اختلفوا فيه من الأصولِ المُبِينَة هُو الذي أودَعه القرآن ، أنزلَه في القرآن الكريم : ((ذَٰلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ نَزَّلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ)) . وهذا فإذا وقفتَ عليه من خطاب القرآن -وهُو بيّنٌ لمَن أنصَف- فإنّه ذمّ للاختلاف على القرآن يتوجّه على المُعانِدين وأهل الشّقاق البَعيد ، يتوجّه إلى اختلافٍ مذموم يتناول أصولاً معها يكون الضّلال والكُفر بالتكذيب أو النّجاة والنّعيم والإيمان بالتّصديق . وهذا موضوع أصول الدّين في شريعتنا المحمديّة ، وليسَت مادّة الاجتهاد من هذا القَبيل ، فالاختلاف الحاصل فيه في فُروع الشّريعَة ، فيتأمّل ناظرٌ ومُهتمّ ، لئلا يجتزئ الآية : ((وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتَابِ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ)) ، فيُعمّمها في كلّ اختلافٍ ، فهذا فعلُ المتضعّفين .

– المقدّمة الرّابعة : يقفُ فيها النّاظر ، إلى أنّ الآيَة وإن كانَ خطابُها في أهل الكِتاب من الأمم السّابقة ؛ إلا أنّها ماضيةٌ فيمَن كانَ حالُهم كحالِهم من هذه الأمّة المحمديّة ، وهُؤلاء فهُم أهل الاختلاف في أصول الدّين والشريعة ، ونعني به ما يترتّب عليه كُفرٌ أوعنادٌ أو كِتمانٌ ونحو ذلك يختلفون ويُخالفون أدلّة الكِتابِ القِرآن الكَريم . ومِنَ المُختلِفين في الكِتاب مَن يدّعي أنّه إمامٌ من الله تعالى أو رسولٌ إلى النّاس -في هذا الزّمان أو سابقِه- ثمّ هُو يكتُم عُلوم الشّرع عن المكلّفين ، فليس هذا بمنهاجِ القرآن العَظيم ، والله تعالى يقول : ((هَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ)) ، أو مَن يدّعي من القرآن أنّ هُناك رسولٌ بعد سيّدنا محمّد -صلوات الله عليه وعلى آله- يرتبطُ بالسّماء بالوحي وصفته صفَة الرّسل السّابقين ؛ ثمّ هُو لا يقيمُ على ذلك الدّليل البيّن من القرآن وإنّما يتبّع المُتشابهات يضلّ نفسه ومَن اتّبعه ، فهؤلاء قضيّتهم هي من جنس قضيّة أهل الكتاب من اليهود والنّصارى في الاختلاف الذي كانوا مَعه وعليه في شِقاق بعيدٍ .

وكذا من يقول بأن الأئمة من آل الرسول مخصوصين بأعيانهم معدودين أهل عصمة ثم أهل غيبة فيترتب على ذلك ضلال الأمة عندما لا يكون لقولهم الواحد المعصوم أثر من اثني عشر قرنا الذي صادروا لأجله سائر العترة من بني الحسن والحسين عليهم السلام في أصل الإمامة، يجعلون ذلك من شروط الإمامة وخواصها -نعني العصمة- ، ثم ليس لذلك الإمام أو الرسول هدي أو بلاغ في الأمة وهداية ، ثم هم مأمورون بالتمسك به .

وبهذا المقدّمة أختمُ هذه الوقفة مع هذه الآيَة ؛ ليكون الناّظر أقرب إلى الفَهم والتّفريق -بإذن الله تعالى- وهُو يقفُ على حال من يُريدُ تعميم الذّم في الاختلاف ؛ ليُدخل مادّة الاجتهاد والاختلاف فيه ؛ بأنّه من قبيل اختلاف أهل الكتاب من اليهود والنّصارى ومَن كان على صفَتهم في هذه الأمّة ، ولن يقولَ بهذا عند التّحقيق إلاّ مَن يجهَل الاجتهاد وحقيقته وضَوابطَه ، وَمن لا يُفرّق بيَنه وبين الرّأي المذموم الذي ينحو نحوه القرآنيون اليوم ، والقائلون برأي إسقاط الحُدود ، أو المُساواة في المواريث ونحو ذلك ، وبين ما كان عليه أهل الكتاب من اليهود والنصارى في حقيقة ووجوه اختلافهم ، فيتنبّه ناظرٌ ، والحمدلله ، وصلّى الله وسلّم على سيّدنا محمّد وعلى آله في العالَمين .

وكتَبه : الكاظم الزّيدي ، غفر الله له ولوالديه ولذرّيته ، وللمؤمنين ، آمين .

يوم الاثنين الموافق 2 شوال 1441هـ
25 مايو 2020 م