(3) وقفَاتٌ مَع آياتِ النّهي عن الاختلاِف في القرآن ، قولُ الله تعالى : ((وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِن بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ)) ، وهَل هي مِن قبيل اختلافِ المُجتهِدين .
بسم الله ، والحمدلله ، وسلامٌ على عباده الذين اصطفى ، وبعد :
سبق وقرّرنا -بكل هُو معلومٌ لصاحب نظَر- أنّ الآيَةَ ؛ سِياقٌ ، فإذاِ لم يفَهم المُتدبّرُ السّياق ، وأصبحَ يجتزئُ الآياتِ ؛ فإنّ قراءته ستكونَ لا جرَم خَداجٌ ، وهذا الفِعلُ لا يجوزُ لمُسلِمٍ يتّقي الله حقّ تُقاِته أن يكونَ عليه ، وَخُلقٌ في العِلم ذميمٌ ، ولمّا كُنتُ وقفتُ على قولِ الله تعالى : ((وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِن بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ)) [آل عمران:19] ؛ وجدتُ البعضَ -بتقصيرِ نظَر وتضعّف- يُريدُ أن يُصادرَ بهذا أصلَ الاجتهاد ، والاختلافِ الآتِي منه بين أئمّة وعُلماء أهل البيتِ -عليهم السلام- ؛ يُريدُ أنّهم بهذا قد وقَعوا في محظورٍ لمّا كانَ ذلك مِنْ حالِهم اختلافٌ في مادّة الاجتهاد في فُروع الشّريعَة ، والقرآن يردّ الاختلاف من الآيَة المذكورَة . ونحن إذا تكلّمنا عن الاجتهاد ؛ فهُو الاجتهاد الشّرعي الصّحيح المُنضبطُ بأدلّة الشّرع وطريقتِه ، وليسَ هُو الرّأي الذي يكونُ من خَارج الشّرع ، فذلك العترةُ مُجمعون على ذمّه ، كما أنّ صاحب الشّبهة أو المُعترض قد أبعدَ عندما جعَل الآيَة رافعةً لأصل الاجتهاد وما يتبُعه من التّفاوت في النّظر .
ونُدلّل على ذلك من خلال عدّة مقدّمات يترتّب بعضها على بعض :
– المقدّمة الأولَى : تقفُ فيها على أنّ وجهاً من وجوه الاختلاف ؛ هُو ذلك الاختلاف الذي وقعَ فيه أهل الكِتاب من اليّهود والنّصارَى والذي كان أصلُه تحريفٌ تختلقُه الأهوَاء بإنقاصٍ لآياتِ كُتب أنبيائهم ، أو تحريفٍ لمعانيها إلى وجوهٍ يطلبونَ بها الدّنيا ، فذلك منهُم اختلافٌ على القرآن وعلى كتب أنبيائهم ، واختلافٌ بينَهم ؛ قد خرجَ عن حدّ الاجتهادِ الذي هُو منضبطٌ بالورَع وبالبقاء تحتَ بيّنات الشّرائع ، ولذلك الله تعالى يصفُ عِلَل اختلافِهم بالبَغي وبالكِتمَان ، وهذا الضّربُ من الاختلاف في أمّة سيّدنا محمّد -صلوات الله عليه وعلى آله- فإنّه يكونُ مِن قبيل اختلافِ أهل الكتاب من اليهود والنصارى في الذمّ والإنكَار ، وليسَ من قَبيل الاجتهاد المُراد والتّفاوت في تتبّع الأدلّة ووجوهها على المسائل الفُروعيّة ، فالاختلاف الأوّل يترتّب عليه ضلالٌ مقطوعٌ ، والثّاني فإنّه لا يكونُ من قبيل الضّلال ما دامَ مُنضبطاً بالاجتهاد الصّحيحِ ، صاحبُه على صفَة الورَع .
– المقدّمة الثّانية : نأتي فيها على سِياق الآيَة تامّاً لنقفَ على ماهيّة الاختلافِ المُراد في الآيَة ، فيقولُ الله تعالى : ((إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ ۗ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِن بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ ۗ وَمَن يَكْفُرْ بِآيَاتِ اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ * فَإِنْ حَاجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ ۗ وَقُل لِّلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ ۚ فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوا ۖ وَّإِن تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ ۗ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ * إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ *أُولَٰئِكَ الَّذِينَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمَا لَهُم مِّن نَّاصِرِينَ)) [آل عمران:19-22] .
– المقدّمة الثّالثة : تقفُ فيها على أنّ المَقصودِين في الآيَة هُم أهل الكتاب -اليهودُ والنّصارَى- ، قولِ الله تعالى : ((وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ)) ، ثمّ لو تأمّلنَا علّة الاختلافِ التي أدّت بهم إلى الاختلاف ؛ لوجدَتا أنّها علّةً ليسَت هي منِ عِلل الاختلاف في الاجتهاد المُنضبط ببيّنات الشّرع وطريقتِه ، وبيّنات الشّرع فهي طريقُته القائمَة على التحرّز والتشدّد في تقديمِ قولِ الله تعالى ورسولِه على أهواء النّفس ، وإن حصَل بعد ذلك تَفاوُت نظَرٍ بينَ أهل العِلم المُتورّعين ، وليسَ هذا هُو الاختلاف الذي ذمّه الله تعالى من حالِ أهل الكِتاب في علّته ، فإنّه اختلافٌ آتٍ من البَغي ، اختلافٌ بعد معرفَة ((إِلَّا مِن بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ)) ، آتٍ من بغيِ بعضهِم على بعضٍ ، من الاختلاف على كُليّات شَرائعِهم ، من الاتّباع لأهوائهِم ، من التأكّل بالباطِل ، ومن التّلبيس وإرضَاء الحُكّام ، والرّد بيَّنات شَرائِعهم ، والتحزّب بكتُب أنبيائهم يلوونهَا لتكون على أهوائِهم ، فيقولُ الله تعالى يُبيّن ذلك من حالِ اختلافِهم : ((بَغْيًا بَيْنَهُمْ)) ، وما هذا حالُه فموضوعُه أصول الدّين والشّرائع وكليّاتُها ، وما هذا حالُه فليسَ هُو من قِبيل اختلافِ المُجتهدِين من أئمة العترَة -عليهم السلام- لأنّهم على أصولٍ واحدة في الدّين والشّريعة ، وهُم على صفَة الورَع والتحرّز في تتبّعهم لوجوه المَدلولات الشرعيّة وإن تفاوتوا في النّظر ، فلا يترتّب على اختلافِهم ضلالٌ أو هلاكٌ ، وليسَ ذلك اختلافُ أهل الكِتاب في الآية وقد وصفَه الله تعالى بالبَغي ، وهذا معه دلالةٌ في التعمّد ، ودلالةٌ على اتّباع الأهواء ، تقديمها على تقوى الله والتحرّز والتثبّت .
– المقدّمة الرّابعة : يقفُ فيها النّاظر ، إلى أنّ الآيَة وإن كانَ خطابُها في أهل الكِتاب من الأمم السّابقة ؛ إلا أنّها ماضيةٌ فيمَن كانَ حالُهم كحالِهم من هذه الأمّة المحمديّة ، فمَن كان سبيلُه في الاختلاف هُو البَغي ، وشاركَ أهل الكِتاب في طريقتِهم التي تعدّوا بها ومعها بيّنات شرائِعهم ، ونصوص كُتبهم البينة ؛ إلى أهواء أنفسهِم ، ولم يكونوا على صفة الورَع والتّقوى ، وكَانت أهواء النّفس عاملةً فيهم ، وطاعَة الحكّام والتنفّذ على العِباد ؛ بتحريف شرائع الله تعالى ؛ فإنّ حَال هؤلاء في أمّتنا هُو حالُ الأمم السّابقة ، ففي الآية تذكرةٌ لمن يتدبّر وخير واعظٍ للانقياد حُسن الاتّباع للشّرع كتاباً وسنّة ، وتقديمِ قول الله ورسولِه -صلوات الله عليه وعلى آله- على كلّ هوىً أو محضٍ رأيٍ وهوى ، أو عن اتّباع المُتشابهات ابتغاء الفتنة وتضليل النّفس والعِباد .
وبهذا المقدّمة أختمُ هذه الوقفة مع هذه الآيَة ؛ ليكون الناّظر أقرب إلى الفَهم والتّفريق -بإذن الله تعالى- وهُو يقفُ على حال من يُريدُ تعميم الذّم في الاختلاف ؛ ليُدخل مادّة الاجتهاد والاختلاف فيه ؛ بأنّه من قبيل اختلاف الأمم الماضيَة على كُتب أنبيائهم ممّن كانت علّة اختلافِهم وقولِهم بالخلاف هُو البغي، ولن يقولَ بهذا عند التّحقيق إلاّ مَن يجهَل الاجتهاد وحقيقته وضَوابطَه ، فيتنبّه ناظرٌ ، والحمدلله ، وصلّى الله وسلّم على سيّدنا محمّد وعلى آله في العالَمين .
وكتَبه : الكاظم الزّيدي ، غفر الله له ولوالديه ولذرّيته ، وللمؤمنين ، آمين .
يوم الثلاثاءالموافق 3 شوال 1441هـ
26 مايو 2020 م