سير أئمة أهل البيت عليهم السلام

سيرة الإمام الحسين بن علي الفخي عليه السلام

سيرة-الإمام-الحسين-بن-علي-الفخي-عليه-السلام

سِيرة الإمَام الحُسين بن عَلي بن الحَسن بن الحَسن بن الحَسن بن عَلي بن أبِي طَالب (128 – 169 هـ ).

منتزع من كتاب سير بعض أئمة أهل البيت عليهم السلام

للأستاذ الكاظم الزيدي

لتصفّح البحث بصيغَة (الفِلاش) ، ويُمكن التّحميل مِنه :
https://www.calameo.com/read/0061241579d609765c228

لتحميل البَحث (ميديا فير) :
https://www.mediafire.com/file/p8lpki7gxkybush/%D8%B3%D9%8A%D8%B1%D8%A9+%D8%A7%D9%84%D8%A5%D9%85%D8%A7%D9%85+%D8%A7%D9%84%D8%AD%D8%B3%D9%8A%D9%86+%D8%A8%D9%86+%D8%B9%D9%84%D9%8A+%D8%A7%D9%84%D9%81%D8%AE%D9%8A+%D8%B9%D9%84%D9%8A%D9%87+%D8%A7%D9%84%D8%B3%D9%84%D8%A7%D9%85.pdf/file

🛑***ومن أراد تحميل كتاب سير بعض أئمة أهل البيت عليهم السلام

لتصفّح البحث بصيغَة (الفِلاش) ، ويُمكن التّحميل مِنه :
https://www.calameo.com/read/0061241571e053c67b511

لتحميل البَحث (ميديا فير) :
https://www.mediafire.com/file/jvq3r4uq65sijx5/syr_aemt_ahl_albeet.pdf/file

وهذا رابط صفحة التلجرام
https://t.me/alkazemalzaidy

بسم الله الرحمن الرحيم

الإمام الحسين بن علي بن الحسن ابن رسول الله (ص) :

نسبه :

هُو الإمام الحسين بن علي بن الحسن بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب (ع) .

لقبه :

الفخي ، نسبةً إلى أرض فخ من مكة المكرمة ، الأرض التي استُشهِدَ وأهلُ بيتهِ فيها .

مولده :

وُلدَ (ع) سنة 128 للهجرة تقريباً .

والدُه :

* هُو علي بن الحسن المثلث (ع) ، ويُلقّب بالعابد لكثرة عبادته ، وكذلك يُلقّب بالأغر .

* وهُو أحد أولئك النفر من أهل البيت (ع) الذينَ حَبسهُم أبو جعفر المنصور في المطبق ، وكان أعمامهُ وبنو عمومتهِ لا يَعرفونَ أوقاتَ الصلاة في سجنهِم المُظلِم إلاَّ بوظائفه من العبادَة وقراءة القرآن .

* وممّا يُؤثرُ عنه (ع) ، أنّه كان وأبناء عمومته في السجن العباسي ، مُقيّدين بقيودٍ ثقيلة ، فكانوا إذا أحسّوا الأمان من الجنود العباسية ، خلعوا تلك القيود ، وإذا أحسّوا بقُربِهِم أعادوها ، إلاّ عابد أهل البيت علي بن الحسن (ع) ، فإنّه لَم يَكُن يخلعها ! ، فقال له عمّه شيخ آل الرسول وكاملهم عبدالله المحض بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب (ع) : (( مَالَكَ لا تَحلُّ قيدَك ؟ فقال علي العابد (ع) : لا أفعَل ! حتّى ألقى الله عزّ وجل فأقول : رَبِّ سَلْ أبا جَعفر لِمَ قَيَّدَني ؟! )) ، فضجرَ كاملُ أهل البيت (ع) ، وقال : (( يا بن أخي ، ادعُ على أبي جَعفر . فقال علي العابد (ع) : يا عَمّ ، إنَّ لأبي جعفَر منزلةً في النّار لا يَصِلُهُا إلاَّ بِما يصلُ إلينا من الأذى ، وإنَّ لَنا منزلةً في الجنة ، لا نَصِلُ إليها ، إلاَّ بالصّبر على ما لَحِقَنا في حقّ الله تعالى مِن أبي جعفر ، فإن شئتَ أن أدعُوَ الله تعالى بأن يَضَعَ من مَنزلتنا في الجنّة ، وأن يُخفّفَ على أبي جعفر من منزلته في النار فَعَلت . فقال عبدالله المحض (ع) : بَل نَصبِر )) .

* استُشهِد (ع) مسموماً في السجن العباسي ما بين سنة 142 إلى 145 هـ . وفيه قُتِلَ جماعُة أهل بيته (ع) ومنهُم عمّه عبدالله المحض (ع) .

أمه :

* وهِيَ زينب بنت عبدالله المحض بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب (ع) . أختُ الإمام محمد بن عبدالله النفس الزكية ، والإمام إبراهيم النفس الرضيّة ، لأمهّم وأبيهم ، وأمّهم هند بنت أبي عبيدة بن عبدالله بن زمعة بن الأسود رضي الله عنها ، وإلى ذلك تشير زينب رحمها الله ، وهي تُلاعبُ وتُرقص ابنها الحسين (ع) – صاحب الترجمة – وهُو صغير فتقول :

تعلَمْ يابن زينب وهند*************** كَم لكَ بالبطحاء في معد
******من خالِ صدق ماجد وجد *******

* كانَت زينب رحمها الله ، وزوجها علي العابد (ع) ، يُسمّونَ بالزوج الصالح ، وممّا يؤثرُ عنهما ، أنّه في ليلة زواجهما ، قال العابد (ع) لها : ما رأيك أن نحيي الليل بالصلاة ، شكراً لله أنْ جَمعنا ، فما زالا ليلهما يُصلّيان ، فلمّا جاء من الغد ، قال لها : ما رأيُكَ أن نحيي النهار بالصيام ، شكراً لله أنْ جَمعنا ، فما زالا على هذه الحال فترةً من الزمان ، إلى أنْ أتى إليه عمّه عبدالله المحض (ع) وقال له : أَرَغبتَ عن سُنّة جدّك ؟! ، أقسمتُ عليكَ إلاّ تَركَت ! ، وكأنّ الإمام المحض (ع) ، يُريدُ منه التخفيف من العبادة بهذه الطريقة ، قيام الليل وصيام النهار ، تتابعاً .

* أيضاً ممّا يُؤثرُ عن أم الحسين زينب بنت عبدالله رحمها الله ، أنّه لمّا قرَع مسمَعهَا ، سمّ أبي جعفر المنصور لزوجها العابد ، وقتلهُ لأبيها المحض ، وقتلهُ لأخويها محمد وإبراهيم ، كانَت تندُبهُم وتبكي حتّى يُغشى عليها ! ، وهِيَ معَ ذلكَ لا تَذكرُ أبو جعفرٍ بسوء ! ، وكانت لا تَزيدُ على قول : (( يا فَاطِرَ السماوات والأرض ، يا عَالِمَ الغيبِ والشّهادَة ، والحاكمُ بينَ عِبادِه ، احكُم بيننَا وبينَ قَومِنا بالحق )) .

نشأة الإمام الحسين الفخي (ع) :

نشأَ الإمام الحسين الفخي (ع) في المدينة المنورة ، في حِجرِ والديه ، وعَليهِما تعلَّم علوم أهل البيت (ع) ، ثمَّ ما لَبِثَ إلاَّ وقَد أُخِذ والدُه وجدّه عبدالله المحض إلى السجون العباسيّة ، وأيضاً ما لَبِثَ إلاَّ وَقرَعت مسامعهُ أنباء استشهادهِم ، وكذلكَ استشهادُ خاليه محمد النفس الزكية وإبراهيم النّفس الرضيّة ، فَبَقيَ (ع) مَع أمّه وأبناء عمومته وأخواله يحيى النفس التقية ، وإدريس ، وسليمان ، وموسى الجون ، أبناء عبدالله المحض عليه وعليهم السلام ، وكانَ علي بن العباس بن الحسن بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب (ع) ، قد قامَ في تلكَ الفترة على الخليفة العباسي ، في بغداد ، فأخذه المهدي العباسي وسجنه ، فتوجهَ إليه الإمام الحسين الفخي (ع) ، واستوهبهُ منه ، فوهَبهُ إياه ، بعد أن دسَّ إليه السمّ سراً ، وما إن لبثَ علي بن العباس في المدينة ثلاثة أيام في المدينة المنورة حتّى تفسّخَ لحمهُ ، وبها مات رحمه الله .

كَرم الإمام الحسين الفخي (ع) :

* رَوى أبو الفرج الأصفهاني في المقاتل : أنَّ الحسين بن علي الفخي (ع) ، باعَ حائطاً لهُ بأربعينَ ألفَ دينار ، فوقفَ بها على بابِ دار ، وصارَ يُفرّقُها على أهل الحاجات ، كفّاً كفّاً ، وحفناً حفناً .

* وممّا يؤثرُ عنه (ع) أنّه قال : (( والذي نَفسي بيدِه ، إنّي أخافُ ألا تُقبَلَ مِنّي – نفقاته وصدقاته – ، لأنَّ الذهب والتّراب قدْ أصبحَ عندي بمنزلةٍ واحدَة )) ، يُريدُ (ع) أنّ الله تعالى قال : (( % )) ، والذّهب والمال ، لَيست ممّا يحبّه ، وليسَت بذي بالٍ عندَه .

بينَ العُمري والي المدينة ، والإمام الحسين الفخي (ع) في المدينة المنورة :

كانَ أميرُ المدينة المنورة في عهد الخليفة الهادي موسى بن محمد العبّاسي ، هُو عمُر بن عبدالعزيز بن عبدالله بن عبيدالله بن عمر بن الخطاب ” العُمَري ” ، وكانَ قَد شدَّدَ على آل علي بن أبي طالب (ع) ، حتّى أنّه كانَ يَطلُبُهُم للعرضِ عليهِ يومياً ، ويَجعلُ بعضَهُم يكفلُ بعضاً ، حتَّى يَضمنَ عدمَ تَغيُّبِهِم ، فتغيَّبَ الحسن بن محمد بن عبدالله المحض (ع) ، قيلَ بسبب خلافٍ وقعَ بينهُ وبينَ شخصٍ عُمريٍّ ، وَكَزهُ الحسن فشجّه فغاب ، فغضِبَ الأمير العُمري لغياب الحسن بن محمد ، فأرسَلَ في طَلَب الإمام الحسين الفخي (ع) ، فَجيءَ به (ع) مُتعتعاً مُلبّباً – مشدوداً من ثيابه التي على صدره – حتّى أُدخِل على العُمَري ، فقالَ له العُمَري : (( إيتني بالحسن بن محمد ، وإلاَّ واللهِ مَلأتُ ظَهرَك وبَطنَكَ ضرباً )) ، فقال الإمام الحسين (ع) : (( إن الحسن بسويقة ، وأنا مُقيمٌ بالمدينة ، ولستُ أقدرُ عليه ، وهُوَ رَجُلٌ حُرٌّ لا يمكنني اقتضابه ، ومَا أنَا لهُ بكفيل )) . فقالَ لهُ العُمري : (( مَا يُصنعُ بهذا الكلام ! ، والله لتأتيني به ، وإلاَّ مَلأت ظهرَك وبَطنكَ ضرباً )) ، فقال الإمام الحسين (ع) : (( إنَّ بيني وبينَهُ ستة وثلاثين ميلاً ، فأمهلني إذاً ، وافتَحْ لي ، حتّى أخرُجَ إليه ، وأجيئُكَ به )) ، ثمَّ استحلفَ وتوعّدَ العُمري الحسين (ع) ، وأمهلهُ إلى الغدِ قبلَ الزّوال .

الإمام الحسين الفخي (ع) في سويقة مع بني عبدالله المحض (ع) :

رَكِبَ الإمام الحسين (ع) ، ووصلَ سويقة ، وهُناك بعثَ إلى الحسن بن محمد ، واجتمعَ إليه آل عبدالله بن الحسن ، يحيى وإدريس وسليمان ، ثمّ قال الإمام الحسين (ع) مُخاطباً الحسن بن محمد : (( قَد بَلَغَكَ يا بن عمّ ما كانَ بيني وبينَ هذا الفاسق )) ، فقالَ الحسن بن محمد : (( فامضِ جُعلتُ فداك لِما أحبَبْت ، إن أحببتَ جئتُ مَعكَ ، حتّى أضعَ يدي في يَدِه السّاعَة )) ، فقالَ له الإمام الحسين (ع) : (( ما كانَ الله ، لِيَطّلِعَ على أن يكونَ محمّدٌ (ص) حجيجي في دَمِك ، ولكنّي أقيكَ بنفسي )) .

فكانَ اجتماعُ هؤلاء السّادة ، إضافةً إلى الظّلم الذي يتعرّضونَ إليه ، وما يُصيبُ أمّة الإسلام في ذلك الزّمان ، من إذلالٍ للأولياء ، وتكريمٍ للظلمة الجُفاة ، والإعانة على الظّلم والفساد ، واندراسٍ للكتاب والسنّة المحمديّة الصحيحة ، حتى تُأوّلٍ على غيرر تأويلِه ، وفُسِّرَ على غير تفسيرِه ، كانَ كُلّ هذا حافزاً لهؤلاء النّفر من بني الحسن على القيام بفريضة الله على العباد بأعلى مراتبها ، الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر باليد ، فاجتمعَت كلمةُ بني الحسن على مُبايعَة ابن أختهم الحسين الفخي (ع) إماماً لهُم ، فقال الحسين الفخي (ع) : (( نشاورُ القوم )) ، يعني أبناء عمومتهم ، لأنّ أهل البيت في ذلك الزّمان ، كانوا أقربُ إلى بعضهم ، وكانوا ثقلُ الله الأصغر في الأرض ، لَم تفشو المذهبية والعنصرية والقبليّة بينهم ، كما حدث في الأعصار المُتأخّرة ، ومعَ ذلكَ فسيبقى منهم طائفةٌ يُمثّلون خطّ أهل البيت السابقين (ع) ، فلا تيأس من إيجاد الثِقَل الأصغر لمجرّد علمِكَ بتمذهب جماعاتهم بمذاهبَ شتّى ، نعم ! فَبَعثَ الإمام الحسين (ع) إلى الإمام موسى الكاظم (ع) ، وإلى عبدالله الأفطس بن الحسن بن علي بن علي زين العابدين ، فاجتمعُوا جميعاً على أن لا يُعطُوا بأيديهم ، وأن يُبلوا عُذراً في جِهادِهم .

إلاَّ أنَّ الإمام موسى الكاظم (ع) اعتذرَ من الإمام الحسين الفخي (ع) في عدم المشاركة في الخروج ، لِثِقَلِ ظَهرِهِ ، وكَثرةِ ما يَعولُ من الأبناء ، وقد كانَ (ع) خافَ عليهم القَتل بعده على حَداثَة أعمارَهم ، وأمّا البيعَة فقَد أعطاها الإمام الحسين الفخي (ع) ، عندما سكتَ على إجماعِ مَن حَضر على مُبايعَة الحسين (ع) ، ويؤكّد بيعتهُ ورضاهُ بإمامة الحسين (ع) هُو تأييدهُ الواضح الظّاهرُ لهذا الخروج ، وذلكَ عندما قال : (( يا بني عمّي أجهدُوا أنفُسَكُم في قتالِهِم ، وأنَا شَريكُكُم في دمائهم ، فإنَّ القومَ فُسّاق ، يُسِرّونَ كُفراً ، ويُظهرونَ إيماناً )) ، وهُنا تأمّل قول الكاظم (ع) : ((وأنَا شَريكُكُم في دمائهم )) ، لأنَّ البعض يرَى أن تخلّفَ الإمام الكاظم (ع) عن المشاركة في المعركة ، كانَ لعدَم رضاهُ عنها ، أو لأنّه لا يَرى الأمر بالمعروف والنّهي عن المُنكر ، وهذا باطلٌ قطعاً ، فإنَّ اعتقادَ أئمة أهل البيت (ع) ، أتباع الإمام زيد بن علي (ع) في قعودِ الكاظم عن الخروج أنّه إنّما كانَ للعذرِ الذي اعتذرَ به ، وأنّهُ حريصٌ على تطبيق مبدأ الأمر بالمعروف والنّهي عن المُنكَر ، إن لَم يَكن باليد فباللسان والقلب ، وكذلكَ كانَ حالُ والده الإمام جعفر الصادق (ع) مع النفس الزكية ، وما احتجنا إلى التنبيه على هذه المسألة ، إلا لما رأينا من غلطَ الجعفرية من الشيعة على نسبةِ عدمِ المُبايعَة من الكاظم للفخي ، وذلك فيما رواه الكليني في الكافي ، وسننبّه عليه عندَ الكلام عن ماهيّة البيعة باسم الرضا من آل محمد ، شعارُ أهل البيت (ع) .

نعم ! ومّمن بايع الإمام الحسين الفخي (ع) من سادات أهل البيت (ع) ، يحيى النفس التقية وإدريس وسليمان أبناء عبدالله المحض ، وموسى الكاظم ، وعلي بن إبراهيم الغمر بن الحسن المثنى ، وعبدالله الأفطس ، وإبراهيم طباطبا ( أبو نجم آل الرسول القاسم الرسي ) بن إسماعيل الديباج بن إبراهيم الغمر بن الحسن المثنى ، وعمر بن الحسن بن علي بن علي زين العابدين ، وعبدالله بن إسحاق بن إبراهيم الغمر ، والحسن بن محمد بن عبدالله المحض ، وكانَ قد اجتمعَ لهُ (ع) ستةٌ وعشرونَ رجلاً من ولدَ علي بن أبي طالب (ع) ، ومن مواليهِم قدرَ خمسة وعشرون رجلاً .

الإمام الحسين الفخي في المدينة المنورة :

تقدّم الإمام الحسين (ع) بمَن معهُ من سادات أهل البيت ومواليهم يُريدون المدينة المنورة ، فدخلوها وقتَ صلاة الصّبح ، وكان شعارهُم (( أَحَدٌ … أحَدْ )) ، وكان العُمَري وقتها في المسجد النبوي الشرّيف ، فاقتحمَ الإمام الحسين (ع) المسجد ، وهُناكَ قَد كانَ المؤذنُّ يُريدُ الأذان لصلاة الفجر ، فهبَّ عليه النفس التقية يحيى بن عبدالله المحض (ع) وقالَ له : (( قُل في أذانك ” حيَّ على خيرِ العَمَل ” )) فتمنَّعَ المُؤذّن ، فلمّا رأى سيفَ يحيى بن عبدالله (ع) مُصلتاً ، أَذَّن بحيّ على خير العمل بصوتٍ مَرعوب ، فلمّا سمِعَ العُمري الأذان ورأى بني فاطمة (ع) ، اقتحمَ دارَ عُمر بن الخطاب غفر الله له ، ومنها إلى زقاق عاصم حتى نفذَ وهَرب ، وآل عليٍّ (ع) لا يزالون في المسجد ، فتقدَّم الإمام الحسين الفخي (ع) ، وصلَّى بالنّاس الصبح ، ثمَّ صَعَد على منبر جدّه رسول الله (ص) ، فَحَمِدَ الله وأثنى عليه ، وصلَّى على نبيّه (ص) ، ثمَّ قال : (( أيّها النّاس ، أنا ابنُ رسول الله ، على مِنبَر رسول الله ، في مسجد رسول الله ، أدعوكُم إلى كتاب الله وسنة رسول الله ، إلى أن أستنقِذَكُم ممّا تَعلمُون ، أيّها النّاس إنّكُم تطلبُونَ أثرَ رسول الله (ص) في الحجر والعود وهذا – ثمّ مدَّ يدَه – مِن لحمِهِ ودَمِه )) ، فبايعَهُ بعض الحاضرين ، وتخلّف عنه البعض .

نصّ بيعة الإمام الحسين الفخي (ع) :

وكانَ (ع) عند طلبهِ البيعات من النّاس ، يقولُ لهُم : (( أُبايعُكُم على كتاب الله وسنة رسول الله، وعلى أن يُطاعَ الله ولا يُعصى ، وأدعوكُم إلى الرّضا من آل محمد ، وعلى أن نَعمَلَ فيكُم بكتاب الله وسنة نبيّه (ص) ، والعَدل في الرّعيّة ، والقسم بالسويّة ، وعلى أن تُقيموا مَعَنا ، وتُجاهدوا عَدوّنا ، فإن نحنُ وَفّينا لكُم ، وَفيّتُم لَنا ، وإن نَحنُ لم نَفِ لكُم ، فلا بيعَة لَنا عليكُم )) ، ثمَّ يقول اللهُم اشهد .

خالد البربري يدخل المدينة المنورة بجيشه :

التحقَ العُمري بعدَ فرارهِ من المدينة ، بعامل العباسيين على الصوافي خالد البربري ، وهُناكَ هيّأ البربري جيشاً ، وتوجّهَ إلى المدينة المنورة ، حتّى اقتحمَ المَسجِد وهُو يَقدُمُ أصحابَه ، وكانَ الإمام الحسين الفخي (ع) في جانبٍ من المسجد ، فشَتَمهُ البربري وأغلظ عليه في الكلام ، فتقدَّم إليه يحيى بن عبدالله المحض (ع) وقيلَ أخوه إدريس بن عبدالله (ع) ، وهَوى عليهِ بسيفهِ فَقَدَّ البيضَةَ والرفادَة والمغفَر ، فخرَّ البربري صريعاً ، ودارَت رحَى المعركة ، وكَانَت الشّوكَة فيها للإمام الحسين ومَن مَعَه ، حتّى سُمِعَ العُمريّ يقول فيها مِن هَولِها : (( أطعموني حَبّتي ماء )) !! ، فأصبح وبنيهِ يُسمّون ببني حَبّتي ماء .

مَسيرُ الإمام الحسين الفخي (ع) إلى مَكّة المكرّمة و احتجازهُ بفخّ :

خرجَ الإمام الحسين (ع) ومعَهُ مِن الرّجال عدّة بَدر ، وذلكَ يوم التاسع عشر من ذي القعدَة سنة ستةٌ وتسعون ومائة للهجرة ، وكانَ ديوانه قد انطوَى على ثلاثين ألفَ رجُلٍ من أهل الأمصار ، وكانَ (ع) قَد واعَدَهُم في الصّفا ، وجعلَ بينهُم وبينَهُ علامة صاحبِ الجملِ الأحمر ، فعَلِمَ الهادي العباسي بخروج الإمام الحسين (ع) إلى مكّة ، فأعدّ الجيوش تلوَ الجيوش وأرسَلَها لملاقاة الإمام الحسين (ع) ، مِنها بقيادة العبّاس بن محمد ، ومِنها بقيادَة موسى بن عيسى ، ومِنها بقيادة محمد بن سليمان بن علي ، ومِنها بقيادَة عُبيد بن يقطين ، وقَد كانَ موسى بن عيسى قد أرسلَ حمّالاً ، ليستطلِعَ لهُ خبرَ الحسين (ع) وجَيشِه ، فذهبَ الحمّال وعادَ قائلاً : (( ما أظُنُّ القومَ إلاَّ مَنصُورين ))!! ، فعاودَهُ موسى قائلاً : (( كيفَ يا ابنَ الفاعلَة ؟ )) ، فأجابهُ الحمّال : أنّي (( ما رأيتُ خلاً ولا فلاًّ ، ولا رأيتُ إلاَّ مُصلّياً ومُبتهلاً ، أو ناظراً في مُصحَف ، أو مُتقلّداً سَيفاً )) ، فضربَ موسى بن عيسى يديهِ على الأخرى ثمَّ بكَى! ، وقال : (( هُمْ والله أكرمُ خَلقِ الله على الله ، وأحَقُّ بما في أيدينا مِنَّا ، ولكنَّ المُلكَ عقيم ، ولَو أنَّ صاحِبَ هذا القبر – يَعني الرسول (ص) – نَازعَنا المُلكَ ضَربنَا خيشومهُ بالسيف )) ، وقد كَانَت الجيوش العباسيّة في مكة المكرّمة ، تُحاولُ جاهدةً ، أن تَحجِبَ أخبار الإمام الحسين (ع) عن حُجّاج بيت الله الحرام ، معَ حرصِ الإمام الحسين (ع) على إرسالِ الرّسول تلو الرّسول ، كَي يَستحثَّ أتباعَهُ وأنصارَهُ ومَن كانَ قَد بايَعه ، ولكن دُونَ جَدوى ، ودُونَ نصير والله المُستعان ، فحُصِرَ الإمام الحسين (ع) ومَن مَعه في أرضٍ قريبةٍ من مكّة المكرّمة حرسها الله تعالى ، وتَبعُدُ عَنها ستة أميال واسمها فخ ، وقَد تُسمّى اليوم بالزاهر أو الزواهرَة ، وهُناكَ استعدَّ الطرَفين للاقتال في مَعركَةٍ غيرِ مُتكافئة لا عَدداً ولا عُدّة .

خِطبَة الإمام الحسين (ع) في أتباعهِ قبلَ المَعركَة :

استدارَ الإمام الحسين (ع) وهُوَ راكبٌ على حمارٍ كانَ لخالِهِ إدريس بن عبدالله (ع) ، واختطَبَ في أتباعهِ وشيعته ، بعدَ حمدِ الله والصلاة على نبيّه ، قائلاً : (( يا أهلَ القُرآن ، والله إنَّ خِصلَتين أدْناهُما الجنّة لشريفتان ، وإن يُبقيكُم الله ويُظفركُم لَيُعمَلَنَّ بكتاب الله وسنة نبيه ، ولتَشبعَنَّ الأرملَةُ واليتيم ، ولَيعزَّنَ مَن أعزَّهُ الله وأولياؤه ، ولَيَذلنَّ من أذلَّه الحق ، والحكم من أعدائه ، وإن تَكُن الخِصلَةُ الأخرى ، فأنتُم تَبَعٌ لِسَلَفِكُم الصالِح تَقدُمُونَ عليهِم وأنتُم دَاعُونَ إليهم : رَسولُ الله، وحَمزةُ، وعليّ، وجَعفر، والحسن، والحُسين، وزيدُ بن علي، ويحيى بن زيد، وعبدالله بن الحسن، ومحمد وإبراهيم ابني عبدالله ، فَمِن أيِّ الخِصلَتين تَجزعُون ؟! فواللهِ لَوْ لَمْ أجِدْ غَيري لحَاكَمتُهُم إلى الله حتّى ألحقَ بِسَلَفي )) ، ولهُ (ع) خُطبٌ غيرها تضمّنتها كُتُبُ سيرته .

خِطبَةُ النفس التقيّة يحيى بن عبدالله المحض (ع) في أهلِ فخّ قبل المَعركَة :

خرجَ يحيى بن عبدالله (ع) راكباً فَرَسَهُ ، وهُوَ مُحمَّلٌ بعزيمَة أهل البيت (ع) ، فاستقبلَ النّاس ، حامداً لله ، مُصليّا على نبيه (ص) ، قائلاً : (( أبْشِروا مَعشَر مَن حَضرَ مِنَ المُسلمِين ، فإنَّكم أنصَارُ الله وأنصَارُ كِتَابِه ، وأنْصَارُ رَسولِه وأعوانُ الحق، وخِيارُ أهلِ الأرض، وعَلى مِلّة الإسلامِ ومِنهَاجِه الذي اختَارَه لأنبيَائهِ المُرسَلين ، وأوليائه الصّابرين، أوَمَا سَمِعتُم الله يَقول: {إنَّ اللَّه اشْترَى مِن المؤمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالهُم بأنَّ لهُم الجنّةَ يُقاتلونَ في سبيلِ الله فَيقتُلونَ ويُقتَلون وعداً عليه حقّاً في التوراة والإنجيل والقرآن ، ومَن أوفَى بعهدِه من الله فاستبشروا بِبَيعِكم الذي بَايَعتُم به وذلكَ هُو الفوزُ العظيم ، التّائبون العابدونَ الحامدونَ الرّاكعونَ السّاجدونَ الآمرونَ بالمعروف والنّاهونَ عن المُنكَر والحافِظونَ لحدودِ الله وَبشِرِ المُؤمِنِين}.

ثم قال: والله مَا أعرِفُ عَلى ظَهرِ الأرضِ أحَداً سِواكُم، إلاّ مَن كَانَ على مِثلِ رأيِكُم حَالَت بَينَكُم وَبينَه المعَاذِير، إمّا فَقيراً لا يَقدرُ على مَا يَحتَمِلُ بهِ إلينَا فَهُو يَدعُو الله في آناءِ لَيلِه ونَهَارِه، أو غَنيّاً بَعُدَتْ دارُه مِنّا فَلم تُدركهُ دَعوتُنا، أو مَحبوسٌ عِند الفَسَقَة وقَلبُه عِندنَا، ممّن أرجُو أن يَكونَ ممّن وفّى لله بما اشترى مِنه، فَمَا تَنتظرونَ عِبادَ الله بِجهادِ مَن قَد أقبلَ إلى ذُرِّيَة نبيكم لِيَسبُوا ذَرَارِيهم ويجتاحوا بقيتهم؟.
ثم قال:اللهم احْكُم بينَنَا وبينَ قَومِنا بالحق وأنتَ خيرُ الحاكمِين. )) ، ومن كلام يحيى بن عبدالله(ع) يستنتجُ الباحث أهميّة الدّعوة في خط أهل البيت (ع) .

التقاء الحق والباطل ( في ساحَة المَعركَة ) :

تقابَل الزيدية وعلى رأسِهم إمام الهُدى الحسين بن علي الفخي (ع) ، معَ العباسيين وعلى ميمنَتِهِم العباسية محمد بن سليمان بن علي العباسي وعلى المَيسرَة موسى بن عيسى ، والعبّاس بن محمد في القلب ، وبينَا الفريقان مُتقابلان ، إذ خَرَج محمد بن سليمان العباسي وسَلَّم على الإمام الحسين (ع) ، وعرَض عليه أمان ابن عمّه الخليفة الهادي العبّاسي ، والتمكينِ والتيسيرُ لَهُ في البلاد ، فما كانَ من الإمام (ع) إلاَّ أن ردَّ قائلاً في كلامٍ طويلٍ منه : (( … أتَظُنُّ إنّما خَرَجتُ في طَلَب الدّنيا التي تُعظّمُونها ، أو للرّغبَة فيما تَعرِضُونَ عليّ مِن أموالِ المُسلمين ؟! ، ليسَ ذلكَ كَما تَظُن ، إنّما خَرجتُ غَضَباً لله ، ونُصرةً لدينِه ، وطَلباً للشهادَة ، وأنْ يَجعَلَ مَقامِي هذا حُجَّةً على الأمّة ، واقتديتُ في ذلك بأسلافي المَاضين المُجاهدين ، ولا حاجَةَ لي في شيءٍ ممّا عُرِضَ عليّ ، وأنا نافِذٌ فيمَا خَرجتُ له ، وماضٍ على بصيرتي حتّى ألحَقَ ربي )) ، وفي هذا من الحسين (ع) تحديدٌ لغرضه وغَرض أسلافه من الخروج على دُولِ الظّلم والعدوان ، وأنّه ليسَ كما تضمّنته بعض التواريخ من الرّغبة في انتزاعِ المُلك وحَسب ، بَل طَلباً منهُم للإمامة الشرعية التي هي في منزلة خلافة ووراثة النبوّة ، والتي لها أهداف ومهامّ الرسول (ص) من تطبيق الأحكام العادلة غير الجائرة والقسم بالسويّة والعدل في الرّعية ، والأمر بالمعروف والنّهي عن المُنكر ، وغيرها ، وكانَ أهلُ البيت (ع) على اختلاف فروعهم وأزمنتهم وأمكنتهم أحرصَ النّاس على تطبيقِ هذا المَبدأ قدرَ المُستطاع ، واطّلِعْ على سِيرِهم تجد هذا حقّاً حقّاً ، وما سيرةُ الحسين الفخي (ع) إلاَّ أنموذجاً وضاءً يشهدُ على صدق كلامنا .

وتَشابكَ الحقّ والباطل في معركةٍ غيرُ مُتكافئةٍ حقّاً ، واستبسلَ فيها أهل البيت (ع) وشيعتهم الكرام ، فخرَّ سليمان بن عبدالله المحض (ع) صريعاً ، وكذلك الحسن بن محمد النفس الزكية ، وعبدالله بن إسحاق بن إبراهيم الغِمر (ع) ، وفي أحداثِ هذه المعركة يَروي بقيّة السّلَف الفاطميّ الصّالح نجمُ آل الرسول وعالمُهم ومحلّ اتفاقهم ، القاسم الرسي بن إبراهيم طباطبا بن إسماعيل بن إبراهيم الغمر بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب(ع) ، به أو بما معناه ، أنّ الحسين بن علي الفخي (ع) في أرض المعركة مالِ إلى جانِبٍ مِنها ، ودَفَن شيئاً ! ، ثمّ عادَ إلى أرض المعركة مُلتثماً ، وكانَ قدْ رآهُ بعضُ أصحابِه يَفعلُ هذا ، وعند انتهاء المعركة جاء صاحِبُه ليتفقّد ماذا دَفنَ الحسين ، فوجدَ قطعةً من لحمِ وجه الحسين (ع) والله المستعان ، وما زالَ الحسين (ع) يستبسلُ في القتال حتّى أتته نشابةٌ أرسلها حمّاد التركي أخزاه الله فأردَتهُ صريعاً شهيداً ، فكانَ هذا هُو يومُ التروية الثّامن من ذي الحجة لعام ستة وتسعون ومائة ، وكبلاء الحسين (ع) كان بلاءُ أصحابه واستبسالهم ومنهُم يحيى بن عبدالله الذي قيلَ أنّه أصبحَ كالقنفذ لكثرة النشابات في جسمه الشريف ، وكذلك عَلمُ الآل إدريس ين عبدالله (ع) فقد غطّته الدّماء وصبغَت ثيابه ، وكان هذين الأخوين ممّن نجى من القتل في معركَة فخ ، فحملاَ على عاتقهما اكمال مَسيرة ابن أختهم الحسين ، وسلفهم من أهل البيت (ع) ، فأكملوا مَسيرَة الزيدية المَرضيّة ، فمهَّد يحيى بن عبدالله للدولة الزيدية في بلاد الدّيلم وطبرستان ، وكذلك إدريس في بلاد المغرب ، فسلامُ الله على تلكم الأرواح ، سلاماً لا يبلغُ مدحتهُ الواصفون ولا العادّون ولا القائلون ، وألحقَهم بآبائهم الطيبين الطّاهرين ، وجعلَنا لهُم شيعةً مُخلصين ، مُقتدين .. آمين اللهمّ آمين .. ، وفي هذه السنّة المؤلمَة على أهل البيت (ع) ، كانَت ولادّة نجم آل الرّسول وترجمان الدّين القاسم الرسي (ع) ، وقَد كانَ لهُ شأناً كبيراً في مَعرفَة علوم أهل البيت (ع) ومَذاهبهِم ومشاربهم الصافية الصحيحة ، لقربُ العهدِ منهُ بأفاضل أهل البيت (ع) من سادات بني الحسن والحسين عليهم سلام الله أجمعين .

قبر الإمام الحسين الفخي (ع) وموضعه :

قُبِرَ الإمام الحسين (ع) في أرض فخ ( الزاهر حالياً ) ، قريباً من مكة المكرمة وتبعدُ عنها ستّة أميال تقريباً ، عند بُستان الدّيلمي ، وقَد كانَ أمير المؤمنين وبقيّة الآل في زمانه الإمام المنصور بالله عبدالله بن حمزة بن سليمان الرسي الحسني ، قد حثَّ وطلبَ من ابن عمّه أمير مكة وشريفها أبو عزيز قتادة بن إدريس بن مطاعن الموسوي الحسني ، أن يُعيدَ بناءَ قبر الإمام الحسين الفخي (ع) ، وقبرَ الحسن بن محمد النفس الزكية ، وكان ذلك عام 601 هـ .

أرض فخ … وما جاء فيها من الآثار على لسان الرّسول (ص) وأهل بيته (ع) :

جاء في أرض في فخ وأنّه يُقتلُ فيها رجلٌ من آل رسول الله له من الفَضل الشيء الكثير ، من الآثار العديد ، منها عن طريق الحسين ذو الدمعة (ع) عن عمّته ريطة بنت عبدالله بن محمد ابن الحنفية ، ومنها عن طريق جعفر الصادق (ع) ، ومنها عن طريق سفيان بن عيينة عن علي بن أبي طالب (ع) وإخباراته المُستقبليّة ، و منها عن طريق موسى الجون (ع) عن أبيه شيخ آل الرسول عبدالله المحض (ع) ، أشرنا إليها وإلى مصادِرها مقاتل الطالبيين لأبي الفرج الأصفهاني، والشافي للإمام عبدالله بن حمزة الحسني (ع) ، والمصابيح لأبي العباس أحمد بن إبراهيم الحسني (ع) ، والإفادة في تاريخ الأئمة السادة للإمام الناطق بالحق يحيى بن الحسين الهاروني (ع) ، فلتُراجَع .

[ مُقدمّة بحث حول دعوات سادات أهل البيت باسم الرّضا من آل محمد (ع) ]

يغلطُ البعض الكثير من الإخوة الجعفرية ، في تفسير دَعوات سادات بني الحسن والحسين (ع) ، باسم الرّضا من آل محمد ، فيجعلونَ هذه الدّعوات دعواتٌ إلى أشخاصِ أئمتهم الإثني عشر ، وعلى أنّهُم هُم المقصودون بالرّضا من آل محمد ، أي أنّ الدّعوة لهُم وباسمهِم وبتصرّفُهِم ، وأنّ القائم بالدّعوة من أبناء عمومتهم كزيد بن علي (ع) إنّما كانَ داعيةً لإمامة ابن أخيه جعفر الصادق على أنّه الرّضا من آل محمد ، وكذلك الحسين الفخّي وأنّه إنّما كان يَقصدُ بالرّضا من آل محمد ابن عمّه موسى الكاظم ، لا إمامَة نفسِه ، وهذا وَهَم ، وإن كانَ الجعفرية لَم يقولوا بهذا إلاَّ في حقّ زيد بن علي ، ولكنّ السيد حسين المدرسي يُحاول في كتابه التاريخ الإسلامي التعميم على جميعِ أئمة الزيدية ، وهُوَ لَم يَثبت عن زيد بن علي (ع) فضلاً عن أن يَثبُت على يحيى بن زيد و النفس الزكيّة والنّفس الرضيّة والحسين الفخي (ع) ، و إنّما قُلنا أنّه وَهمٌ ، لأنَّ الحقيقة هُو أنَّ هؤلاء السّادَة خَرجوا داعينَ لإمامَة أنفُسهِم ، وإن دَعَوا إلى الرّضا من آل محمّد ، فهُم الرّضا من آل محمد ، دعَا بها زيدُ بن عليٍّ وهُو الرّضا ، ودَعا بها النّفس الزكيّة وهُوَ الرّضا ، ودَعا بها الحسين الفخي (ع) كما مرّ بكَ في سيرته وهُوَ الرّضا ، وسنخصّ الكلامَ هُنا على الإمام الحسين الفخي (ع) – صاحب الترجمة – ، وما مَدى أبعاد دَعوتهِ إلى الرّضا من آل محمّد ، ومَن هُو الرّضا الذي يقصده ، ومُناقشَة – كما وَعدنا – ما رواهُ الجعفرية حول عدم مُبايعَة الكاظم له ، ثمَّ بيانُ وجه الحقّ في هذا المقال .

[الدّعوة إلى الرّضا من آل محمّد عليهم وعلى جدّهم أفضل الصلاة والتسليم :]

الدّعوة إلى الرّضا من آل محمّد (ع) ، كانَ شعاراً توارثهُ أئمة أهل البيت (ع) ، يتعالمُونَ به دَعواتهِم بالإمامَة ، دعواتِهم الآمرة بالمعروف والنّاهية عن المُنكَر ، القائمَة بما كان يقومُ به جدّهم رسول الله (ص) ، قدرَ المُستطاع مع إبلاء الجُهد في تحقيق تلك الأهداف السّامية .

[ لماذا تقوم الجعفرية باستقطاب دعوات سادات بني الحسن والحسين على أنّها دَعواتٌ لأئمتهم ]

وهذا تساؤلٌ يجب أن يسألَ عنهُ كلُّ ذو لبٍّ سليم ، ونحنُ نُجيبُ عليه باختصارٍ غيرُ مُخلٍّ إن شاء الله تعالى ، فنقول : أنَّ الجعفرية أدركَت ضعفَ جانبها ، و مَدى دهاء وعظمَة أن يكونَ هؤلاء السادة من بني فاطمة أمثال زيد بن علي وابنه يحيى و محمد النفس الزكية وإبراهيم النفس الرضية والحسين الفخي ، الذينَ دانَت الأمة جمعاً بفضلهِم وتقدّمهم على أهل أعصارِهم ، ومَدى عِبادَتهِم وحُسنِ مَذاهِبِهِم ، مَدى دهاء وعظمَة أن يكونَ هؤلاء وأمثالُهم على جهلٍ بأئمة أزمانهم المعصومين الإثني عشر ، فالدّعوة إلى الرّضا من آل محمد من زيد بن علي (ع) ، إلى إمامة نفسه ، تعني جهلَ الإمام زيد (ع) بإمامَة ابن أخيه جعفر الصّادق ، تعني جهلَ الإمام زيد (ع) بالنّص الإثني عشري برمّته ، والإمام زيد هُوَ مَن هُو في القُرب من بيتِ المعصومين فأبوه زين العابدين رابعُ الإثني عشر ، وأخوه الباقر خامسُ الإثني عشر ، وابن أخيه جعفر الصادق سادس الإثني عشر ، فادّعاء زيد الإمامَة لنفسه ، تُضعِفُ معرفتهُ بالنّص على هؤلاء الأئمة بأسمائهم وأعدادهم ، و هذا يكونُ على حجّةً عُظمى عندما يكونُ أبناء الأئمة لا يَعلمُونَ أئمة أخوتهم وأبناء إخوتهم الإمامة الربّانية النّصية ، وأمثالُ هذا المثالِ كثيرٌ لدى الجعفرية ، وفيه فليتأمّل الباحث ، نعم ! والدّعوة إلى الرّضا من آل محمد من مُحمد بن عبدالله النفس الزكيّة (ع) ، إلى إمامَة نفسه ، تَعني جَهلَ النفس الزكيّة بإمامَة ابن عمّه جعفر الصّادق (ع) ، تَعني جَهلَ النفس الزكيّة (ع) بالنّص الإثني عشري برمّته ، والإمام محمد بن عبدالله المحض (ع) مَعروفٌ بألمعيّته وعلوّ شأنه في العلم والورَع والتديّن ، والقُرب من صالحي أهل البيت (ع) ، هذا وقَد حَشرَ الجعفريّة بعض الأدلّة في الاستدلال على دعوة الإمام زيد بن علي (ع) إلى الرّضا من آل محمد قاصداً بالرّضا ابن أخيه ، لا نَفسَه ، وهيَ باطلةٌ قطعاً ، وليسَ هذا المُختَصر محلُّ نقاش وإثبات بُطلانها ، ومعَ ذلك فإن الجعفرية وإن اجتهدوا في غمطِ زيد بن علي (ع) إمامته ، فإنّهم لَن يستطيعوا استجلاب أو تحوير أو تبديل أدلّة ادّعاء النفس الزكيّة (ع) [ تلميذ عمّه زيد بن علي ، وأحدُ المُشاركين معه في ثورته ] للإمامَة باسم الرّضا من آل محمد ، قاصداً نفسَه بالرّضا ، لا غيرَها ، وهذا الحَدثُ ممّا يُعلَمُ بالضّرورة ، لا يُنكرهُ إلاَّ مُباهت ، وأكَّد عليه السيد الخوئي في معجمه ، وجعلّه من الأمور التي لا خلافَ حولَها ، فإن أرادَ الجعفرية إسقاط شَناعَة جهل الإمام زيد بن علي (ع) بإمامة ابن أخيه الصادق (ع) ، فإنّه لا يَسقُطُ عنهُم شَناعَةُ جَهل النفس الزكية (ع) بإمامَة ابن عمّه جعفر الصادق (ع) ، ولا يسقطُ عنهُم شناعة جهل النفس التقيّة يحيى بن عبدالله (ع) بإمامة ابن عمّه موسى الكاظم (ع) ، ولا يسقطُ عنهُم شناعة القاسم الرسي (ع) بإمامة ابن عمّه محمد الجواد (ع) ، وكذلكَ الحالُ مع -صاحب الترجمة – الإمام الحسين الفخي وجهلهُ بإمامَة ابن عمّه موسى الكاظم (ع) ، وهُنا سنذكُر أدلّة دُعاء الحسين الفخي (ع) إلى الرّضا من آل محمد ، وأنّه كانَ الرّضا ، لا غيرَه .

[ نظرةُ سادات أهل البيت في أزمانهم إلى الرضّا من آل محمد ومَن هُو ؟ ]

أ‌- قالَ الحافظ مُسند أهل الكوفة ومُحدّثها وفخر الزيدية أبي عبدالله محمد بن علي بن الحسن بن علي بن الحسين بن عبد الرحمن بن القاسم بن محمد البطحاني بن القاسم بن الحسن بن زيد بن الحسن بن علي بن أبي طالب (ع) في كتابه الجامع :

1– قال محمد بن منصور المرادي – رحمه الله -: سَألتُ أحمد بن عيسى [ بن زيد بن علي زين العابدين ] (ع) ، عَن الدّعوة هَلْ إلى الرّضَا مِن آلِ مُحمّد ؟ فَقالَ: (( نَعَم، الدّعوةُ إلى الرضَى، ثمَّ قَالْ: الذِي يَقومُ هُو الرّضَى، ولِكنّهَا دَعوَةٌ جَامِعَة )) . هذا وأحمدُ بني عيسى (ع) ممّن عاصَر دَعوات بني فاطمة ، وهُو الذي ما بينهُ وبين جده زيد بن علي (ع) إلا أبٌ واحدٌ فقط !! .

2– عن محمد بن منصور المرادي – رحمه الله -، قال: قُلتُ لأحمد بن عيسى (ع) : حَدّثني عبدالله بن موسى [ الجون بن عبدالله المحض بت الحسن المثنى ] أنَّ زَيدَ بن عَلي، ومُحمّد بن عبدالله، وحُسينُ بنُ علي صَاحبُ فخ (ع) : دَعَوا إلى الرّضا ، فَقَال [ أحمد بن عيسى (ع)]: (( صَدَق، دَعَانِي الحُسينُ صَاحِبُ فَخ إلى الرّضا ، وهُوَ كَانَ الرّضَا )) . وهُنا تأمّل ربطَ زاهد الآل عبدالله بن موسى الجون (ع) بين دَعوة زيد بن علي وعمّه النفس الزكيّة ، ربطها بالدعوة إلى الرّضا من آل محمّد ، مع العلم أن الأخير كانَ قَد دَعا إلى نفسه بلا شكٍّ من الجعفرية في ذلك ، ودعوة الإمام زيد بن علي (ع) كانَت كدعوة النفس الزكية مثلاً بمثل ، وكيفَ لا تكونُ الدّعوات مُتشابهة فيما بينهُما ، والنفس الزكية هُو القائل : ((أمَا والله لقد أحيَا زيدُ بن علي ، مَا اندَثر مِن سُنَنِ المُرسَلين، وأقَامَ عَمودَ الدّين إذْ اعوّج، ولَن نَقتَبِسَ إلاّ مِن نُورِه، وزَيدٌ إمِامُ الأئمّة )). أيضاً تأمّل قول أحمد بن عيسى (ع) أنّ الحسين الفخي (ع) دَعاهُ إلى الرّضا ، وأنّهُ كانَ هُوَ الرّضا ، عندها أيقِن أنَّ الدّعوة باسم الرّضا إنّما كانَت لأشخاصِ القائمين عليها ، لا لِغيرهِم كما توهّمت الجعفريّة .

ب – رَوى الإمام الناطق بالحق يحيى بن الحسين بن هارون بن الحسين بن محمد بن هارون بن محمد بن القاسم بن الحسن بن زيد بن الحسن السبط بن علي بن أبي طالب (ع) .

3- عن الإمام نجم آل الرسول القاسم الرسي (ع) ، قال : حدّثني أبي [ إبراهيم طباطبا أحد المُبايعين للحسين الفخي (ع) ] ، قالْ : (( بَايَعنا الحسين بن علي الفخي (ع) على أنّه هُوَ الإمام )) . وهُنا تأمّل أنّه قد ثبتَت دَعوة الحسين الفخي (ع) إلى الرّضا من آل محمّد ، فيأتي شيخ الزيدية إبراهيم طباطبا ليؤيّد أنّه بايعَ الحُسين الفخي على أنّه الإمام ، بالرّغم من دعوة الحسين (ع) إلى الرّضا ، فهُوَ الرّضا .

[ بيعة الإمام موسى الكاظم (ع) ، للإمام الحسين الفخي (ع) ]

تُحاولُ الزيدية جاهدةً لإبراز أهل البيت (ع) في أزمانهم ، بصورَة الجَسد الواحد الذي إذا اشتكى منه عُضوٌ تَداعى له سائرُ الأعضار بالسّهر والحُمّى ، وليسَ في مُحاولاتهِم هذه أي تعسّفٍ في المقال ، أو بُعدٌ عَن الصّواب ، لأنّه الواقع الذي تستنتجه الفطرة السليمة ، قبلَ المصادر التاريخية والروائية ، وخصوصاً في مَن كان منهم قريباً بعهد رسول الله (ص) ، الحسن بن الحسن وعلي بن الحسين ، الباقر وزيد بن علي ، الصادق والنفس الزكية ، الكاظم والحسين الفخي ، .. إلخ . ولكنَّ الجعفرية للأسف تًسعَى لخلقِ فجواتٍ عميقة المَدى بين سادات بني الحسن وسادات بني الحُسين ، بَل بين سادات بني الحسين أنفُسهُم ، والله المُستعان ، ونحنُ عندما نكتُبُ هذه السطّور غيرُ راغبين بإبراز الجعفرية بهذا اللّباس ، لأنّنا نَعلمُ أنّهُم اليومَ لا يُحبّونَه ، وقَد لا يَدينونَ الله به ، ولكن أصولَ مَذهبهم تُحتّم عليهم الاختيار لواحدٍ مِن اثنين : 1) إمّا موالاة أئمتهم الإثني عشر ، وصفّ أئمة الزيدية في مصافّ الخارجين عن طاعَة الإمام ، المُستبدّين على حقّ أعطاهُ الله له ، ولا موالاة لِمَن هذه صفته . 2) وإمّا موالاة أئمتهم الإثني عشر ، وموالاة أئمة الزيدية واعتقاد أنَّ الجميع على صواب ، وهُم بهذا سيفتحونَ على أنفُسهِم نوافذَ عديدة ، تُدينهُم . والأمرُ لهُم وعليهِم ، ويهمّنا هُنا هُو بيانُ سبب قولنا في الوجه الأول من صفّ سادات بني الحسن والحسين أئمة الزيديّة في عداد الخارجين الباغين المُتسلّطين ، حتّى لا نكونَ بذلكَ ممّن يرمون بالكَلِم لا يَملكونَ عليه دليلاً ، وذلكَ أنَّ الجعفرية قَد رَوَت أحاديثاً شنيعةً تُصوّر لنا ما كان بينَ زيد بن علي (ع) وابن أخيه الصّادق ، ولَن نَذكُرها لعدَم ثبوتِ حُجّيتها عند الجعفرية مع ثبوتِ روايتهم لها ، ولكنّا سَنُعرّج على سيرة ما بينَ الإمامين الأعظمين محمد النفس الزكية وابن عمّه جعفر الصادق عند الجعفرية لأنّا سنحتاجها في الكلام حولَ الفخي والكاظم ، فتصفُ الجعفرية أنّهُ قَد جرَى بينهُما من الاختلاف ما أدّى بالنفس الزكيّة إلى إرغام الصادق (ع) على البيعَة له ، وإن أبى فالسجنُ ملجأه ، ووصفِ الباقر للنفس الزكية بأنّه الأحول المشؤوم الدّاعيةُ إلى الباطل ، ثم نُعرّج على أصل كلامنا وهُو علاقةُ ما بينَ الكاظم والحسين الفخي (ع) حال طَلبِ البيعة ، فيروي ثقة الجعفرية محمد بن يعقوب الكليني بسنده في كتابه الكافي :

(( لمَّا خَرَجَ الحسين بن علي المقتول بِفخ ، واحتَوى عَلى المَدِينَة، دَعَا مُوسَى بن جَعفَر إلى البيعَة، فَأتاه فَقالَ لَه: يَا ابنَ عمّ لا تُكلّفنِي مَا كَلّفَ ابنُ عمّكَ – يقصد النفس الزكية – عَمَّكَ أبا عبدالله – جعفر الصادق – فَيَخرُجَ مِنّي مَا لا أريد ، كَمَا خَرَجَ مِن أبي عبدالله مَا لَم يَكُن يُريد!!، فقال له الحسين: إنّمَا عَرَضتُ عَليكَ أمراً فَإن أَردْتَه دَخلتَ فِيه، وإنْ كَرِهتَه لَم أحْمِلكَ عَليه والله المُستعان، ثمَّ ودّعَهُ، فَقالَ له أبو الحسن موسى بن جعفر حين ودعه : يا ابن عم إنّك مَقتول ، فَأجِد الضّرَاب ، فإنّ القومَ فُسّاق ، يُظهرونَ إيماناً ويسترونَ شِركاً ، وإنا لله وإنا إليه راجعون، أحتسبكم عِندَ الله مِن عُصبَة )) .

نقد الرواية ، واستنتاجات مهمة حولها :

أولاً : هذه الرّواية تُثبت أنَّ الدّعوة من الإمام الحسين الفخي (ع) باسم الرّضا من آل محمّد هيَ إنّما كانَت لشخصِ الدّاعي إليها ، وليسَت إلى غيره ، بدليل : طَلَبِ الإمام الحسين (ع) البيعَة من موسى الكاظم (ع) . وهذا يفتحُ للباحث آفاقاً واسعةً للبحث في ماهيّة دَعوات الرّضا من آل محمد .

ثانياً : هُنا بُمجرَّد إثبات الجعفرية طَلَب الحسين الفخي (ع) البيعَة من ابن عمّه الإمام موسى الكاظم ، انتفَت مَعرفَة الإمام الحسين الفخي (ع) ، بإمامَة ابن عمّه الإمامة النّصية الإثني عشرية المُتسلسة ، انتفَت مَعرفَة الإمام الحسين الفخي بالنّص من جدّه رسول الله (ص) بإمامة أبناء عمومته القريبي الوشيجة والرّحم معهم ، وهذا أيضاً يفتحُ للباحث آفاقاً واسعةً للبحث في ماهيّة صدق النصوص التي يرويها الجعفرية والدّالة على إمامَة الإثني عشر ، وأنَّ أفاضل مُعاصري الأئمة يَجهلونَها .

ثالثاً : أنَّ الإمام الكاظم (ع) يَرفُضُ مُبايَعَة الحسين (ع) عندما دَعاه ، ويقولُ له : ((يَا ابنَ عمّ لا تُكلّفنِي مَا كَلّفَ ابنُ عمّكَ – يقصد النفس الزكية – عَمَّكَ أبا عبدالله – جعفر الصادق – فَيَخرُجَ مِنّي مَا لا أريد ، كَمَا خَرَجَ مِن أبي عبدالله مَا لَم يَكُن يُريد!! )) ، وهُنا تتّضح لكَ معالِم العلاقات السيئة التي يرسمها الجعفرية بين سادات بني الحسن والحسين ، إذ في هذا الكلام من الكاظم تأكيدٌ لسوء العلاقة بين أبيه الصادق والنفس الزكيّة ( ونحنُ نُنزّهُهما عن كُلّ ما يُشين ، ونَروي مُساندَة الصادق ومُبايعته لابن عمّه النفس الزكيّة ) ، وكذلكَ ننُزّه الإمام الكاظم (ع) من صدورِ هذه التهدّدات عنه في حقّ الحسين الفخي بقوله : ((فَيَخرُجَ مِنّي مَا لا أريد )) ، ونَروي مُبايعَة الكاظم (ع) للحسين الفخي وحضوره اجتماع سادات بني الحسن (ع) ، وإقرارهُ على ما أقرّوا عليه .

اعتراض : لَو قال جعفري : أنّ الإمام الحُسين الفخي والنفس الزكيّة ، إنّما خَرجا للأمر بالمعروف والنّهي عن المُنكر فقط ، بدون ادّعاءٍ للإمامَة ، وأنّهُم مُعترفين مُقرين بإمامَة أئمة أزمانهم من الإثني عشر ، وأنّهم إنّما كانوا دُعاةً لهُم .

جوابه : تماشياً ما كلامك أخي المُعترِض ، وإغماضاً للعيون عن النّصوص الثابتات التي تُثبتُ خروجَهم مُدّعين للإمامَة ، فهَل للدّاعيَة‍ الفخّي (ع) أن يَدعُوَ إمامَه الشرّعي الرّباني موسى الكاظم إلى البيعة ؟‍ وهَل للكاظِم (ع) على ضوء الرواية السابقة أن يَرفُضَ بيعةَ داعيته ؟ فإن عَرفتَ سُقمَ وضعف العبارات السابقة ، وضعفَ الاعتراض ، فعضّد هذا المِثال : بأن هَل للداعية النفس الزكيّة (ع) أن يَدعُو إمامه الشرعي الرّباني جعفر الصادق إلى البيعة ، بل وإرغامهُ عليها ( كما وصَفت الروايات الجعفرية ) ، ثمَّ عضّد ما سبق : بأن هل للداعية النفس التقية يحيى بن عبدالله المحض (ع) أن يُغلظَ الكلام على إمامه الشرعيّ الرّباني موسى الكاظم (ع) وأن يصفهُ باحتجابِ الأمر هُوَ وأبوه فإذا عَرفتَ بُطلان هذا الفعل وهذا التصرّف ، عرفتَ حينها بطلانَ اعتراضِك ، وأنَّ مَن يقول به فإنّما يُريدُ أن يُسليَ نفسهُ وأن يُقاربَ ويُسدّد ، ولَو كانَ هذا منه على حِساب إنصافهِ وعَدم اقتناعه وخداعهِ لنفسه ، ولغيرِهِ بما يُحاوِلُ أن يُقولبَهُ لهُم إن كان مِن الباحثين ، الداعين ، المُرشدين .

وإكمالاً لسدّ ثغرات هذا الاعتراض الركيك ، نذكر ما جَرى بين النفس التقيّة يحيى بن عبدالله المحض (ع) وبين الإمام موسى الكاظم (ع) ، ونحرصُ على إبراز جهل يحيى بن عبدالله بإمامَة موسى الكاظم ، حتّى أتى مَن يُخبرهُ بهذا الأمر بعدَ أن قامَ ودَعا ( وهي مُدّة طويلةٌ لا ينبغي من النفس التقية أن يكون جاهلاً بهذه الإمامة في حقّ ابن عمه بطولها ) ، ثمّ ننوّه على استنباط الروح العدوانية التي تُصوّرها الرواية الجعفرية فيما بينهُما ، وما يستحقّ التركيز عليه هُوَ أنَّ الإمام الكاظم (ع) ينصح ويحثّ النفس التقية بطاعَة وبرّ الخليفة العباسي هارون الرشيد والله المُستعان ‍، ويا لهُ من تَناقض بينَ موقفِ الكاظم هُنا من الخلافة العبّاسية ، و موقفه من الخلافة العبّاسية في عهد الحسين الفخي عندما وصمَهُم بالفسق وأنهم يُظهرون إيماناً ويسترون شركاً .

فيروي ثقة الجعفرية محمد بن يعقوب الكليني في الكافي أنهُ قَد كان : (( كَتبَ يَحيى بن عبدالله بن الحسن إلى موسى بن جعفر (ع) :

” أمّا بَعَد فَإنّي أوصِي نَفسِي بِتقَوى الله ، وبِهَا أوصِيك ، فإنّها وَصيّة الله فِي الأولّين وَوصِيّتهُ فِي الآخِرين ، خَبّرَنِي مَن وَرَدَ عَلّيَّ مِن أعوانِ الله عَلى دِينِه ونَشرِ طَاعَتِه بِمَا كَان مِن تَحَنّنِكَ مَعَ خِذلانِك ، وقَد شَاورَتَ فِي الدّعوةِ للرضَا مِن آل مُحمّد‍ (ص) ، وقَد احْتَجَبتَهَا واحْتَجَبَهَا أبُوكَ مِن قَبلِك ، وقَديماً ادّعَيتُم مَا لَيسَ لَكُم وبَسَطَتُم آمَالَكُم إلى مَا لَم يُعطِكُم الله ، فَاستَهويتُم وأَظْلَلتُم وأنَا مُحذّرُكَ الله مِا حذَّرَك اللهُ مِن نَفسِه “

فَكَتَبَ إليهِ أبوالحَسن موسى بن جعفر (ع) :

” مِن مُوسَى بن أبي عبدالله جَعفر ، وعَلي مُشتركِينَ فِي التذلل لله وطَاعَته ، إلى يَحيى بن عبدالله بن حسن، أمَّا بَعد : فَإنّي أُحذِّرُكَ اللهَ ونَفسِي ، وأُعلِمُكَ أليمَ عَذابِه وشَديدَ عِقَابِه، وتَكَامُل نقمَاته، وأوصِيكَ و نَفسِي بِتقَوى الله ، فَإنَّهَا زَينُ الكَلام وتثبيتُ النّعَم، أتَانِي كِتَابُكَ تَذكُرُ فِيه أنّي مُدّعٍ وأبِي مِن قَبل ، ومَا سَمِعتَ ذَلك مِنّي (تأمّل) ، وسَتُكتَبُ شَهادَتُهم ويُسألُون ، ولَم يَدَع حِرصُ الدّنيا ومَطَالِبَهَا لأهلها مَطلباً لآخرَتهم، حَتى يَفسد عليهِم مَطلبُ آخرتِهِم فِي دُنياهِم (تأمّل) ، وذَكرتَ أنّي ثبَّطْتُ الناسَ عَنكَ لِرَغبَتي فِيمَا فِي يَديَك (تأمّل) ، ومَا مَنَعنِي مِن مَدخَلكَ الذي أنتَ فِيه ، لَو كُنتُ رَاغباً ضَعفُ عَن سنة ولا قِلّة بَصيرَةٍ بِحُجّة ، ولكنَّ الله تبارك وتعالى خَلقَ النَّاسَ أمشَاجَاً وغَرائبَ وغَرائز، فَأخبرنِي عَن حَرفَينِ أسْألك عَنهُما : مَا العَترَفُ فِي بَدَنِك ومَا الصَهلَجُ فِي الإنسان ‍، ثُمّ اكتُب إليَّ بِخَبَرِ ذَلك ، وأنَا مُتقدّمٌ إليكَ أُحذّرُكَ مَعصيةَ الخَليفَة ، وأحُثّكَ على بِرّه وطَاعَتِه ، وأنْ تَطلُبَ لِنَفسِكَ أمَاناً قَبلَ أنْ تَأخُذَك الأظفَار ويَلزمُكَ الخِناقُ مِن كل مَكَان، فَتروحُ إلى النّفس مِن كُل مَكان ولا تَجِده، حَتى يَمُنَّ الله عَليكَ بِمَنّه وفَضلِه ورِقّة الخَليفَة أبَقاهُ الله فَيؤمِنَكَ ويَرحَمَكَ ويَحفَظَ فَيكَ أرْحامَ رَسول الله ، والسّلام عَلى مَن اتبعَ الهُدى، إنّا قَد أوحِي إلينَا أنَّ العَذابَ على مَن كَذَّبَ وتَولّى .

قال الجعفري (الرواي): فَبَلَغَنِي أنَّ كِتابَ مُوسَى بن جعفر (ع) وقَعَ فِي يَدَي هَارون فَلمّا قَرأه قال: النّاس يَحملونِي عَلى موسى بن جعفر ، وهُو برئ ممَّا يُرمَى بِه )) . انتهت الرواية والله المُستعان ، والعاقلُ خصيمُ نفسه ، ودأبُ الباحثُ التمحيصُ فيما وراء السطّور ، حتى يحصُلَ على اليقين ، ولا تميلُ به الرّجال عن يمينٍ وعن شمال ، و بهذا و بما ذكرناهُ سابقاً ، نوضّح ما نعنيه في الوجه الثاني ، من أنَّ الجعفريّ وإن حاول التلبّس بثياب الولاء لهؤلاء السّادة من أئمة الزيدية مع الولاء لأئمته الجعفرية ، فإنّه سيفتحُ على نفسه نوافذ عديدةً قَد لا يستطيع الجمعَ بينها ، إلاّ بتحكيم العقل ، وتركَ الهَوى والتعصب لآراء الرّجال . وإذ قَد ذَكرنا ما ذَكرنا ، فإنه وجَب علينا بيان وجه الحق فيما سبقَ مِن المقال :

وجه الحق في علاقة أئمة أهل البيت (ع) ببعضهِم البَعض :

تؤمنُ الزيدية بفضل أصحابِ الفضل من سادات بني الحسن والحُسين ، والكلُّ عندهم مَعدن النبّوة ، ومحلّ الرئاسة والزّعامة في الدّين والدّنيا ، يتفاضلون بالعَمل والتّقوى ، القائمُ المجاهد في سبيل الله أفضلُ من القاعِد ، وهذا نصّ الله سبحانه وتعالى ، ولا نَعدوهُ ولا نزيدُ عليه ، فقال عزّ من قائل كريماً : ((لاَّ يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُوْلِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فَضَّلَ اللّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلاًّ وَعَدَ اللّهُ الْحُسْنَى وَفَضَّلَ اللّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْرًا عَظِيمًا )) فالقائم المجاهد أفضل من القاعد ، والكلّ وعدَهَم الله بالحُسنى . وكذا أهل البيت (ع) .

و تُؤمنُ بمحبّة الصادق للنفس الزكيّة ومُناصرتهِ له بالنّفس والوَلَد ، وكذلكَ الحالُ بين الإمام الفخي (ع) وموسى الكاظم (ع) ، وأنّ هؤلاء وإن تخلّفوا عن المُشاركَة في ميادين الوَغى مَعَ أبناء عمومتهم ، فإنّهم كانوا بقلوبهِم وبدعاءهم معهُم مُشايعين مُناصرِين .

تُؤمنُ الزيدية بقيامِ أئمة الجعفرية الذينَ هُم أئمتنا وأعلامُنا في حلالنا وحرامنا ، بقيامهم بفرض الأمر بالمعروف والنهي عن المُنكَر قدرَ المُستطاعَ وإن لَم يُشاركوا بأعلى مراتبها وهي اليد ، لأنَّ مراتب الأمر بالمعروف والنّهي عن المُنكَر ثلاث أعلاها وأفضلها اليد وأدناها التغيير بالقلب وأوسطها التغيير باللسان ، فَانتفَاء صِفَةِ الأمرِ بِالمعروفِ والنّهي عَن المنكر باليد ، لا يَعنِي انتفائهَا عَن اللسان والقلب ، وكذلكَ كانَ السجّاد (ع) عِندَمَا صعدَ المنبر بحضرة طاغية المُسلمين يزيد ، وكَذلكَ كان جعفر الصادق عندما انتهرَ مَن يسبّ سادات أهل البيت على المنبر النبوي ، وكذلك حالُ سادات بني الحسن والحسين ممّن لَم يُؤثَر عنهم مواقفُ ثوريّة في مَيدان الوغَى ، وهذه هيَ نَظرةُ الزيدية إلى أئمة الجعفرية (ع) ، لأنّ البعض ، قد يعتقدُ وصمَ الزيدية للباقر (ع) بإسدال السّتر وإرخاءه ، هُو رضاهُ بحُكم طواغيت بني أميّة هشامٌ وأذنابه ، وهذا باطل ، أو أنّه لا يأمرُ بالمعروف ولا ينهى عن المنكر مُطلقاً بمجرّد عدم خروجه بالسيف ، وهذا أيضاً باطل ، لأنّ السيف واليد ما هيَ إلاَّ مَرتبةٌ من مراتب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ويليها مراتب ، والاختلاف هُنا في الأجر والفضل ، و مرتبة اليد أفضلها وأجلها ، والقلب أضعفها ، وكذلك كُلّ ما يُوهِمُ الرّكون إلى الظَلمَة والطّواغيت من أئمة أهل البيت (ع) القائمين والقاعدين ، فإنّهُم مُنزّهين عنه ، وعن الاعتقادِ به ، إذ لَو كانَ هذا اعتقادُهم ما كانُوا لَنا أئمة هُدىً ، ولا كانوا لَنا مَرجعاً في أمور الدّين والدّنيا ، أعزّهم الله من هذا الاعتقاد .

وتؤمنُ الزيّدية أنَّ مُتقدّمي أهل البيت (ع) على مَذهبٍ واحدٍ ، لا ثانيَ له ، وأنهُم مهما اختلفُوا فإنّهُم لا يُجمعُونَ على باطلٍ قَطعاً ، وإجماعهُم حُجّة لأنّهم الثِقَل الأصغَر المُلازمُ للكتاب الكريم .

وتُؤمنُ الزيدية أنّه ستبقى فرقةٌ من أهل البيت سائرةٌ على خُطى سَلفها الصالح حذوَ القُذّة بالقُذّة ، ينطبقُ عليهم لقبُ الثّقلُ الأصغر كما انطبقَ على أسلافهِم الماضين ، وبهم يتحقّقٌ حديث الثقلين والسفينة ، وما رأينا فرقةً مِن فِرَق المُسلمين ضمّت واحتوَت من أعلام الذريّة الزكيّة المرضيّة ، ما حَوتهُ الزيدية إلى يومِنا هذا ، سيداً يعقب سيد ، إمام يتلو إمام ، قائمٌ يتلو قائم ، مُجمعونَ على عقيدةٍ في الله واحدَة ، فالزمَها تركَب سَفينَة نوح ، وإن كُنتَ تَجهلها فقَد لَزمَتك الحجّة على نفسك بقراءة هذه الأسطُر ، فحثّ الخُطى إلى الاستزادَة عنها ، وأمّا الجاهل فإنه عَدوّ نفسهِ ، فلا عليكَ منه ، ولا تَكترِث به ، لأنّه يَهرفُ بمَا لا يَعرف ، ويقُولُ بما يُقال لا بِما يَقولْ !! ، واعتمِد على نفسِك ، ومَا يُمليهِ عليكَ بَحثُك وتحرّيك ، لأنّ الضائقة عليك ، والقبرُ لَن يَحوي غَيرَك ،والله المستعان . وبهذا نختم كلامنا ، فسلام الله على أهل بيت النبوة والرحمة المُذهب عنهم الرجس ، نجوم السماء وملاذ الورى.

8/1/1426 هـ

وصلى الله وسلم على سيدنا محمد النبي وعلى آله الأخيار الأطهار الأبرار .

—–

المصادر :

– الشافي للإمام المنصور بالله عبدالله بن حمزة الحسني (ع) .
– التحف شرح الزلف للإمام الحجة مجدالدين بن محمد المؤيدي الحسني (ع) .
– المصابيح لأبي العباس أحمد بن إبراهيم الحسني (ع) .
– الإفادة في تاريخ الأئمة السادة للإمام الناطق بالحق يحيى بن الحسين الهاروني الحسني (ع) .
– تيسير المطالب في أمالي أبي طالب ، للإمام الناطق بالحق يحيى بن الحسين الهاروني الحسني (ع) .
– أخبار فخ ويحيى بن عبدالله لأحمد بن سهل الرازي الزيدي .
– مقاتل الطالبيين لأبي الفرج الأصفهاني الزيدي .
– أصول الكافي لمحمد بن يعقوب الكليني .

سير أئمة أهل البيت عليهم السلام

تفضيلِ أمير المؤمنين على أبي بكر وعمر

* يحيى بن آدَم (ت203هـ) -وهُو فمِن رجال الزيديّة وأعلامِهم- ، وأحَد أنصار الإمام محمّد بن إبراهيم طباطبا (ت199هـ) -عليهما السّلام- ؛ يذكرُ مَن يقولُ بتفضيل أمير المؤمنين -عليه السّلام- على سائر الصّحابة ، من أعيانِ السّلف ورُواة الحديث، فيروي ابن عساكر بإسناده، قَال يحيى بن آدم : ((مَا أدرَكتُ أحَدَاً بالكُوفَة إلاّ يُفَضِّلُ عَليّاً يَبدَأ بِه، ومَا أستثني أحَدَاً غَير سُفيان الثّوري)) [تاريخ مدينة دمشق:42/530] .

– فأمّا إسنادُ ابن عساكر، فهُو : ((أخبرنا أبو غالب [أحمَد بن عَلي ابن البنّاء ؛ ثقةٌ] ، وأبو عبد الله ابنا البنا [يحيى بن الحسن ابن البنّاء ، ثقةٌ حافظ] ، قالا: أنا أبو الحسين بن الأبنوسي [محمد بن الأبنوسي التوني، ثقةٌ] ، أنا أحمد بن عبيد الله بن الفضل [أحمد بن عبيد الواسطي، ثقةٌ] إجازةً ، نا محمد بن الحسين [الزّعفراني، ثقةٌ] ، نا ابن أبي خيثمة [أحمد ابن أبي خيثمة، ثقةٌ حافظ] ، قال سمعت يحيى بن معين [ثقةٌ حافظٌ] ، يَقولُ: قَال يحيى بن آدَم : ((مَا أدرَكتُ أحَدَاً بالكُوفَة إلاّ يُفَضِّلُ عَليّاً يَبدَأ بِهِ ومَا أسْتَثني أحَدَاً غَيرَ سُفيَان الثّوري)) [تاريخ مدينة دمشق:42/530] .
– الكلامُ عن تفضيلِ أمير المُؤمنين -عليه السّلام- على أبي بكر وعُمر ؛ لا أنّ الكلامَ حول تفضيل أمير المُؤمنين -عليه السّلام- على عُثمان؛ لمّا كان سفيان الثّوري مقطوعٌ به في كُتب التراجم تفضيلُه لأمير المؤمنين -عليه السّلام- على عثمان ؛ فلا معنى لاستثناء يحيى بن آدم سُفيانَ الثّوري إذا كان سياقُ كلامِه تفضيل أمير المُؤمنين -عليه السّلام- على عثُمان؛ فالكلامُ على تفضيلِه -عليه السّلام- على أبي بكر وعُمر؛ يحكي ذلك عمّن أدركَه من مشايخِ الكُوفيين؛ ويؤكّده بقولِه : ((ما أستثني أحداً)) !. ثمّ سفيان الثّوري هُو الذي اختلفَت حوله الرّوايات في تفضيلِه أمير المؤمنين على أبي بكر وعُمر، وفي تفضيلِهما عليه -عليه السّلام- ، ولهذا المبحثِ مقامٌ آخَر حول سفيان وموقفِه.
– يتأيّدُ كلامُ يحيى بن آدم ، بقولُ عُبيدالله بن موسى العبسيّ (ت219هـ) ؛يحكي عقيدَة جمَاعَةٍ من كبار السّلفِ في القُرون الثّلاثَة المُفضَّلة؛ وإنّما أخصّ القرون الثّلاثة المفضَّلة لمّا وجدتُ البعضَ ينظرُ إليِهم بهالَة التّقديس في معرفَة الحقّ والسُّنَن : ((مَا كَان أحَدٌ يَشكُّ في أنَّ عليّاً أفضَل مِن أبي بَكر وعُمَر)) [تاريخ يحيى بن معين:1/159] .
– ثمّ يتأيّدُ كلامُ يحيى بن آدَم بقولِ معَمر بن راشد الأزديّ، بالسّند السّابق لابن عساكر : ((قَال [محمّد بن الحسين الزّعفراني، ثقةٌ] : ونا ابن أبي خيثمة [أحمد ابن أبي خيثمة، ثقةٌ حافظ] ، نا أحمد بن منصور بن يسَار [الرّمادي ، ثقةٌ حافظٌ] ، نا عبد الرّزاق [الصّنعاني ، ثقةٌ حافظ] ، قال: قَال مَعمَر [الأزدي ، ثقةٌ ثبتٌ] -مَرّةً وأنا مُستقبله- وتَبسَّمَ وَليس مَعنَا أحَدٌ ، قُلتُ: مَا شَأنُك؟!. قَالَ [معمر] : ((عَجبتُ مِنْ أهلِ الكُوفَة؛ كأنّ الكُوفَة إنّمَا بُنيَت على حُبّ عليٍّ؛ مَا كَلّمتٌ أحَداً مِنهُم إلاّ وَجَدتُ المُقتَصِدَ مِنهُم الذي يُفَضِّلُ عليّاً عَلى أبي بكر وعُمر؛ مِنهم سُفيَان الثّوري)) [تاريخ مدينة دمشق:42/530] .
🟥 – شُيوخُ يحيى بن آدَم الكوفيّون؛ الذي مدلولُ كلامِه أنّهم كانوا يقولون بتفضيل أمير المؤمنين -عليه السّلام- على أبي بكر وعُمر :
1- إبراهيم بن حُميد الرّؤاسي (ت178هـ) .
2- أبو إسحاق السّبيعي (ت126هـ) .
3- أبو بكر بن عيّاش الأسدي (ت193هـ) .
4- إسرائيل بن يونس ابن أبي إسحاق السّبيعي (ت160هـ) .
5- إسماعيل بن عبدالعزيز العبسي (ت169هـ) .
6- الحسن بن ثابت التّغلبي .
7- الحسن بن صالح الثّوري (ت169هـ) .
8- الحسن بن عيّاش الأسدي (ت179هـ) .
9- الحسين بن علي الجعفي (ت203هـ) .
10- الفضيل بن مرزوق الأغر (ت160هـ) .
11- المسيب بن رافع الأسدي (ت105هـ) .
12- المفضل بن صدقة الحنفي (161هـ) .
13- المفضل بن مهلهل السّعدي (167هـ) .
14- بشر بن سلمان النّهدي .
15- بكر بن خنيس الكوفي .
16- جرير بن عبدالحميد الضّبي (188هـ) .
17- جعفر بن زياد الأحمر (167هـ) .
18- حبيب بن سليم العبسي .
19- حفص بن غياث النّخعي (194هـ) .
20- حماد بن السّائب الكلبي (146هـ) .
21- حمزة بن حبيب الزيّات المقرئ (ت156هـ) .
22- حميد بن عبدالرحمن الرّؤاسي (189هـ) .
23- حنش بن الحارث الكوفي .
24- زكريا ابن أبي زائدة الوادعي (ت147هـ) .
25- زياد بن عبدالله البكائي (183هـ) .
26- سعد بن سنان البرجمي .
27- سفيان بن عيينة الهلالي (ت198هـ) .
28- سلام بن سليم الحنفي (ت179هـ) .
29- سلمة بن رجاء التميمي .
30- شريك بن عبدالله النّخعي القاضي (177هـ) .
31- عبثر بن القاسم الزّبيدي (ت178هـ) .
32- عبدالرحمن ابن الغسيل (ت171هـ) .
33- عبدالرحمن بن حميد الرؤاسي .
34- عبدالرّحمن بن عبدالله المسعودي (ت160هـ) .
35- عبدالسّلام بن حرب الملائي (ت187هـ) .
36- عبدالله بن إدريس الأودي (ت192هـ) .
37- عبد ربه بن نافع الكناني (ت171هـ) .
38- عبدة بن سليمان الكوفي (ت187هـ) .
39- عبيدالله بن عبيدالرحمن الأشجعي (ت182هـ) .
40- عصام بن قدامة البجلي .
41- علي بن صالح الهمداني (ت151هـ) .
42- علي بن هاشم البريدي (ت180هـ) .
43- عمار بن رزيق الضبي (ت159هـ) .
44- عمر بن أبي زائدة الهمداني (ت151هـ) .
45- عيسى بن عبد الرحمن السلمي (ت151هـ).
46- فطر بن خليفة المخزومي (ت151هـ) .
47- قران بن تمام الأسدي (ت181هـ) .
48- قطبة بن عبد العزيز الأسدي .
49 – قيس بن الربيع الأسدي (ت163هـ) .
50- كامل بن العلاء التميمي .
51- مالك بن مغول البجلي (ت159هـ) .
52- مجالد بن سعيد الهمداني (ت144هـ) .
53- محمد بن الفضيل الضبي (ت195هـ) .
54- أبو أحمد محمد بن عبد الله الزبيرى (ت203هـ) .
55- محمد بن كناسة الأسدي (ت207هـ) .
56- معروف بن واصل السعدي .
57- مندل بن علي العنزي (ت167هـ) .
58- منصور بن المعتمر السلمي (ت132هـ) .
59- موسى بن قيس الحضرمي .
60- وكيع بن الجراح الرؤاسي (ت196هـ) .
61- يحيى بن المهلب البجلي .
62- يحيى بن زكريا الهمداني (ت183هـ) .
63- يحيى بن سلمة بن كهيل الحضرمي (ت172هـ) .
64- يزيد بن عبد العزيز الأسدي .
65- يونس بن أبي إسحاق السبيعي (ت152هـ) .
66- وغيرهم .
🟥 – نعم، في البحث العلميّ المَنهجيّ أنّ من أخرجَه الدّليل الصّحيح من زُمرة هؤلاء؛ بحيث أثبتَ أنّ منهم مَن يقولُ بتفضيل أبي بكر وعُمر على أمير المؤمنين -عليه السّلام- ، فالدّليل أولى ويُقدَّم، إلاّ أنّ هذا يبقى من يحيى بن آدم مُعارِضَاً فيما لو صحّت الرّواية عن المَخصوصين، ويبقى البقيّة على أصل حكاية يحيى بن آدَم -وغيرِه- ؛ ثمّ وأنتَ الباحثُ الحصيف فإنّ هُناك دُعاةٌ لأقوالِهم وبِدَعِهم من داخل الفرقة السنيّة؛ فمِن هُنا أنت لا بُدّ أن تتنبّه لرواياتِهم عن السّلف من المُحدّثين تفضيلهم أبا بكر وعُمر على أمير المُؤمنين -عليه السّلام- ؛ فجُملة من تلك الرّوايات لا تصحّ عن أولئك السّلف.
– هناك ُمتضعّفون، أو لديهم رؤيةٌ قاصرةٌ لماهيّة إطلاقِ أهل الحَديث، أو المُحدّثين؛ فإنّه لأوّل وهلةٍ يظنّهم سلفٌ لهؤلاءِ الفرقة السنيّة المَعلومَة بمجموعَة اعتقادَات، وهذا خطأٌ منهجيّ كبيرٌ؛ فإنّ أولئك المُحدّثين أو نقلَة الحديث منهُم الشيعة، ومنهُم الأشاعرَة، ومنهُم المُفوّضَة، ومنُهم القدريّة، ومنهُم المُرجئة، ومنهُم مَن هُو مستورٌ، ومنهُم مَن هو مجهولُ القولِ والاعتقاد؛ فمن أينَ أنّ نقلة الحَديث هؤلاء -الرّواة- بجمعِهم؛ هُم سَلفٌ للفرقة السنيّة؟!، ليُقال فيما بعدُ القرون الثّلاثة المُفضّلة!. نعم، أولئك السّلف جماعاتٌ جماعاتٌ في اعتقاداتِهم، إلاّ أنّه لا يجوزُ أن يُنسبَ لهُم كجمعٍ واحدٍ قولٌ كقولِ السلفيّة أو مَنْ يُسمّون أنفسهم الأثريّة. اللالكائي وابن بطّة وغيرهم رووا أخباراً عن بعضٍ من كبار السّلفِ قد يتأيّدون بهم في عقائدِهم السنيّة؛ إلاّ أنّ ذلك لا يخلو من نقاشات؛ إمّا لضعفِ سندٍ، أو قبول التّأويل على ما يُخالفُ قول الفرقة السنيّة، أو حمّال أوجه، أو ليس نصّاً في المقصود، أو مُعارض بروايات وأقوالٍ !.
– إنّ مُحاولة سرقَة السّلف في قولِ واحدٍ، ليُقال هُو قولُ الفرقة السنيّة، أمرٌ في غاية الأهميّة، بحيث يتنبّه له الباحثُ المُتيقّظُ؛ لأنّه إن وجدَ سلفاً للفرقة السنيّة داخل القرون المُتقدّمة؛ فإنّه سيجدُهم مجرّد جماعَةٍ قليلةٍ؛ هذا إذا قد أحرزنَا مطلباً كبرويّاً، وهو تحريرُ ماهيّة مذهب أهل السنّة والجماعة؛ لأنّ هُناك مُتضادّون عقائديّاً كلّهم يرى أحقيّةً بمذهب أهل السنّة والجماعة، أشاعرةٌ، وماتريديّة، وأثريّة تيميّةٌ !.
– هذه لُمعةٌ وإشارةٌ للباحِث، والعُهدَة عليه في التّقصي؛ إذا كان يهتمّ لمثلِ هذا؛ لأنّ باحثين آخَرين قد وقعوا في خطأٍ منهجيٍّ؛ وهُو أنّ مُرادَهم إحرازُ أنّ مذهب أهل البيت -عليهم السّلام- هُو مذهبُ السّلف، يُريدُ مذهب أهل السنّة والجماعة، يُريدُ مذهب أهل الحديث، يريُد مذهب أهل القرون الثّلاثة الأولى المُفضَّلة، في تفضيل أبي بكر وعُمر على أمير المؤمنين -عليه السّلام- ، وهُو بعدُ لم يعرِفَ سَلَفَاً على قولِه، ولا أهل حديثٍ، ولا عترةً.
وفّقكم الله

اللهمّ صلّ وسلّم على محمّد وعلى آل محمّد ..

سير أئمة أهل البيت عليهم السلام

ترجمة الإمام الناصر الأطروش الحسن بن علي عليهم السلام

بسم الله الرحمن الرحيم

والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين ، سيدنا محمد النبي الأمين ، وعلى آله الغر الميامين ، ورضوانه على الصحابة الراشدين والتابعين لهم بخيرٍ وإحسانٍ إلى يوم الدين .

الإمام الناصر الأطروش الحسن بن علي بن رسول الله :

نسبه :

هُو الإمام الناصر الكبير الأطروش الحسن بن علي بن الحسن بن علي بن عمر الاشرف بن علي زين العابدين بن الحسين السبط بن علي بن أبي طالب ، عليه وعلى آبائه السلام .

مولده :

وُلِدَ (ع) في المدينة المنورة سنة 225 هـ وقيلَ سنة 230 هـ ، وكانتَ أمّه أم ولد ، خراسانية الأصل .

صِفَتهُ (ع) :

كانَ (ع) طَويلَ القَامَة، يَضرِبُ إلى الأدَمة، بِه طَرَش مِن ضَربَةٍ أصَابَت أُذُنَه فِي حَادثةٍ اتفقَت عليه بنيسابور أو بناحية جرجان .

نشأته وتنقلاته (ع) :

نشأ (ع) في المدينة المنورة ، وتعلّم في أحضان أهل البيت (ع) هُناك ، ثمّ ارتحلَ إلى الكوفَة وروى عن مشائخها ومنهم حافظ علوم الآل المُحدّث محمد بن منصور المرادي رحمه الله تعالى ، ثمَّ ارتحلَ إلى طبرستان أيام قيام ابن عمّه الدّاعي إلى الحق الحسن بن زيد بن محمد بن إسماعيل بن الحسن بن زيد بن الحسن السبط (ع) ، وبقيَ عندَ الدّاعي إلى الحق إلى أن تُوفّيَ سنة (270 هـ ) ، ثمَّ صحِبَ أخوه الدّاعي محمد بن زيد (ع) ، وكانَ مُحمّد كأخيه الحسن ، يَعرف للناصر مَكانَهُ وفَضلَه ، ورتبتهُ ومنزلتهُ في العِلم بأصول الكتاب والسنّة النبويّة المطهرّة ، والنّاصر الأطروش كانَ كذلكَ يحفظُ لهُما مَنزلتهما العظيمة ، فيقول النّاصرُ (ع) ممُتدحاً ابن عمّه الدّاعي محمد بن زيد (ع) :

جَلا الشّبُهاتَ فَهُمُكَ يا بنَ زَيدٍ = كَمَا جَلّى دُجى الظُلَمُ النّهارُ
فأنتَ أميرُ هذا الخَلقِ طُرّاً= وأنتَ على عُقولِهِمو عيار

وكانَ الإمام الهادي إلى الحق يحيى بن الحسين بن القاسم الرسي بن إبراهيم بن إسماعيل بن إبراهيم بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب ، قد وفدَ إلى طبرستان في مدَّة الدّاعي محمد بن زيد (ع) ، وإن دلّ هذا على شيء ، فإنّما يَدلّ على اجتماعِ أهل البيت (ع) تحتَ رايةِ مَذهبٍ وقولٍ واحدٍ أحَد ، حيثُ احتضنت أرض طبرستان في ذلكَ الوقت أربعَة أعلامٍ من سادات أهل البيت (ع) ، كُلّهم تحت مَذهَب أهل البيت (ع) ، مَذهبِ الإمام زيد بن علي (ع) ، منهُم الدّاعي إلى الحق الحسن بن زيد وأخوه محمد ، من ذرية الحسن بن زيد بن الحسن السبط ، ومنهُم الناصر الأطروش الحسن بن علي ، من ذرية عمر الأشرف بن علي زين العابدين بن الحسين السبط ، ومنهُم الهادي إلى الحق يحيى بن الحسين ، من ذريّة إبراهيم بن الحسن بن الحسن السبط ، وإن كانَت المصادر لا تُشيرُ إلى مُقابلةٍ شخصيّة بين الإمام الهادي إلى الحق يحيى بن الحسين (ع) وبين الإمام الناصر الأطروش الحسن بن علي ، ولكنّها أشارَت إلى وُدٍّ فاطميٍّ قائمٍ بينهما ، كما سيأتي .

عِلمُ وفَضل النّاصر (ع) :

– قالَ الإمام الناصر الحسن بن علي (ع) ، مُراسلاً بعضَ أصحابه ، ومُبيّناً لِفَضلِه، : (( بَعدَ أنْ مَحّصتُ آيَ التنزيل ، عارفاً بها ، مِنها تفصيلٌ وتَوصيل ، ومُحكَمٌ ومُتشابَه ، ووعدٌ ووعيد ، وقَصصٌ وأمثال ، آخذاً باللغة العربيّة التي بِمعرِفَتِها يكونُ الكَمال ، مُستنبطاً للسُنّةِ مِن مَعادِنها ، مُستَخرجاً للكامِنات مِن مَكامِنها ، مُنيراً لِما ادْلَهَمَّ مِن ظُلَمِهَا ، مُعلناً لِما كُتِمَ مِن مَستورِها )) .

– كانَ لهُ مَجلسٌ لإملاء الحديث ، يَجتمعُ فيه فُقهاء البَلد ، وأهلُ العِلم كُلّهُم .

– قال الإمام الهادي إلى الحق يحيى بن الحسين الرسي الحسني (ع) :
((النّاصِرُ عالمُ آلِ مُحمّد ، كَبَحرٍ زاخرٍ بعيدُ القَعر )).

– قال الإمام الناطق بالحق أبو طالب يحيى بن الحسين الهاروني الحسني (ع) :
(( كانَ جامِعاً لِعلمِ القُرآن ، والكلامِ ، والفِقه ، والحَديثِ والأدب ، والأخبارِ واللّغة، جيّدَ الشّعر ، مَليحَ النّوادِر ، مُفيدُ المَجالِس )) .

– قال الإمام المنصور بالله عبدالله بن حمزة بن سليمان الحسني (ع) :
(( لَم يَكُن في عَصرِه مِثلهُ ، شُجاعاً وعَلماً )).

– قالَ مُؤرّخ الزيدية الشهيد حميد المحلّي رحمه الله :
(( كانَ جامعاً لفنونِ العِلم ، مِن أصولِ الدّين ، وفُروعِه ، ومَعقولِه ، ومَسموعِه ، راويةً للآثار ، عارِفاً بالأخبار ، ضارباً في عِلمِ الادبِ بأقوى سبب )) .

– قالَ خير الله الزركلي : (( كانَ شيخُ الطّالبيين ، وعالِمَهُم )) .

جهوده في نشر العلم

قُتِلَ الدّاعي محمد بن زيد (ع) ، في إحدى وقعاتهِ ( بجرجان ) وبها قُبِر ، وكانَ ذلكَ يوم جمعةٍ من شهر رمضان سنة 277 هـ ، والإمام النّاصر (ع) كانَ ممّن نجى من القَتلِ في تلكَ الوَقعة ، فانهزَم قاصداً ( الدّامغان ) إلى بيت شيخٍ من بني الحَسن (ع) يُقال له : محمد بن الحسن بن محمد بن جعفر الحسني، ومِن هُناك بلغَ جستان ملكُ ( الدّيلَم ) تواجدهُ بالدّامغان ، وكان يُكنَّ للإمام الناصر (ع) من الإكرام والتقدير الشيء الكثير ، فأرسلَ الملكُ رُسله إلى الناصر ، يطلبُ بيعتهُ ومُناصرَتهُ ، ولكنّ الإمام النّاصر تخوّف عدمّ وفاء الملكِ له ، فأحلَّ الملكٌ عليه في المسألة حتى قالَ للناصر (ع) : (( فإنّكَ إنْ نَهَضتَ فَهُو كَمَا قُلتْ، وإن أبيتَ فَقد ألزَمتُكَ الحُجّة فِي ذَلك، وأنَا أُشهِدُ الله عَلى ذَلك ، وكَفى بالله شَهِيداً)) . فأجابهُ النّاصرُ (ع) وقَدمِ إليه ، وحَسُن حالُ أهل الدّيلَم ، واجتمعوا حولَ الإمام الأطروش ، وبدأ يَنشرُ الإسلام بين عُبّاد الأحجار والأشجار ، ويُعلّمهم مبادئ الدين الإسلاميّ الحنيف ، يُفقهّهم ويُبصّرهُم أمورَ دينهِم ، يحثّهُم على الأمر بالمعروف والنهي عن المُنكر ، يُجسِّدُ فيهم حُبّ أهل البيت (ع) والولاء لهُم ، وفي ذلكَ يقول (ع) في إحدى خُطَبِه لمّا دخلَ بلادَ آمل عاصمة طبرستان: (( أيّها النّاس إني دَخلتُ بلادَ الدّيلم وهُم مُشركون ، يَعبدونَ الشّجرَ والحَجر ، ولا يَعرفونَ خالقاً ، ولا يَدينونَ دِيناً ، فَلم أزَل أدعوهُم إلى الإسلام ، وأتلطَّفُ بِهِم ، حتّى دَخلُوا فيه أرسالاً ، وأقبلُوا إليَّ إقبالاً ، وظَهرَ لهُم الحق ، واعتَرفُوا بالتوحيدِ والعَدل ، فَهَدى الله بي منهُم زهاءَ مأتي الفِ رَجُلٍ وامرأة ، فهُم الآن يتكلّمون في التوحيدِ والعَدل مُستبصِرين ، ويُناظِرونَ عَليهِما مُجتَهِدين ، ويَدعَونَ إليهِما مُحتَسبين ، يأمُرونَ بالمعروفِ ويَنهَونَ عن المُنكر، ويُقيمونَ حُدودَ الصلوات المكتوبات ، والفرائض المَفروضات ، وفيهِم مَن لَو وَجَد الفَ دينارٍ مُلقىً على الطّريقِ لَم يأخُذ ذلكَ لنفسِه ، ويَنصبَهُ على رأسِ مِزراقه (رُمحه) يَنشِدُهُ في هَواي ، واتّباعِ أمري في نُصرَة الحقّ وأهلِه ، لا يُولّي أحدٌ منهُم عَن عَدوّهِ ظَهره ، وإنّما جِرحاتُهُم في وجُوهِهِم و أقْدَامِهم ، يَرَونَ الفِرارَ مِنَ الزّحف إذا كانُوا مَعي كُفراً ، والقَتلَ شهادةً ومَغنماً )) . وبهذا الصّنيع من الإمام النّاصر (ع) معَ أهل الدّيلَم ، فإنّه مَهَّدَ لدعوةٍ مُحمّديةٍ عَلويّة فاطميّةٍ حُسينيّة جامِعةٍ نافعةٍ ، يُحددّ الناصرُ أهدافها فيقول ، مُراسلاً لبعضهم : (( ولَقَد بَلَغَك – أعزَّك الله – ، مَا أدعُو وأهدي إليه ، من الأمرِ بالمعروف والنهي عن المُنكَر ، إحياءٌ لِما أُميتَ من كتابِ الله تعالى ، ودُفِنَ من سنّة رسول الله صلى الله عليه وآله )) .

عَدل النّاصر (ع) :

– قال النّاصرُ (ع) في بعضِ خُطَبه : (( وأنتُم مَعاشِرَ الرّعية ، فليسَ عليكُم دوني حجاب ، ولا عَلى بابي بَوّاب ، ولا على رأسي خَلقٌ من الزّبانيَة ، ولا عليَّ أَحدٌ مِن اعوانِ الظّلمَة ، كَبيركُم أخي ، وشابُّكُم وَلدي ، لا آنَسُ إلاَّ بأهلِ العِلم مِنكُم ، ولا أستريحُ إلاَّ إلى مُفاوضتِكُم )) .

– قال الإمام الناطق بالحق يحيى بن الحسين الهاروني الحسني (ع) :
(( كانَ [ النّاصرُ ] يَنظُرُ في الأمورِ بنفسِه ، وبَسَطَ العَدل ، ورَفَعَ رُسومَ الجور ))

– قال ابن جرير الطبري : (( ولَم يرَ النّاسُ مِثلَ عَدلِ الأطروش ، وحُسنِ سِيرَتِه ، وإقامَتِه للحق )).

– قال ابن الأثير : (( وكانَ الحَسنُ بن علي حسَن السيرَة ، عادلاً ، ولَم يَرَ النّاسُ مِثلَهُ في عَدلِه ، وحُسنِ سرتِه وإقامتهِ للحق )) .

– قال ابن حزم : (( وكانَ هذا الأطروش ،فاضلاً ، حَسَنَ المَذهَب ، عَدلاً في أحكامِه )) .

بديهة الناصر (ع) وحُسنُ مُناظَرتِه :

روى الإمام يحيى بن الحسين الهاروني الحسني (ع) في أماليه ، أنَّ أبو بكر محمد بن موسى البخاري قال : (( دَخَلتُ عَلى الحسين بن علي الآملي المحدث ، وكَانَ فِي الوقتِ الذي كَان الناصر للحق الحسن بن علي (ع) في بِلاد الدّيلم بَعد، وقَد احتَشَدَ لِفَتحِ آمِلٍ وَوردهَا، والحُسين بن علي هَذا يُفتِي العَوام بِأنّهُم يَلزَمُهُم قِتالُ النّاصِر للحق (ع) ويَستَنفِرُهُم لِحَربِه ومَعونَة الخُراسَانيّة عَلى قَصدِه، وزَعَم أنهُ جِهادٌ ، ويَأمُرُهُم بِالتجهِيز وعَقدِ المرَاكِب ، كَمَا يَفعَلُ الغُزَاة، قَال: فَوجَدتهُ مُغتَمّاً ! فَقُلتُ له: أيّها الأستاذ مَالِي أرَاكَ مُغتَمّاً حَزيناً ، فَألقَى إليَّ كِتَابَاً وَرَدَ عَليه، وقَال: إقرَأه ، فَإذَا هُو كِتابُ النّاصِر للحق (ع) ، وفِيه : ( يَا أبَا عَلِي ، نَحنُ وإيَاكُم خَلفٌ لِسَلفٍ ، ومِن سَبيل الخَلَفِ إتّبَاعُ السَّلَف والإقتدَاءُ بِهِم، ومِن سَلَفِكُم الذينَ تَقتَدُونَ بِهِم مِنَ الصّحَابَة عَبد الله بن عُمر ، ومُحمَّد بن مسلمة ، وأسامَة بن زيدٍ، وهَؤلاء لَم يُقَاتِلوا مُعَاوية مَعَ عَلي بن أبي طالبٍ (ع) مَعَ تَفضِيلِهِم عَليّاً (ع) تَأوّلاً مِنهُم أنّهُم لا يُقَاتِلونَ أهلَ الشّهَادَتين ، فَأنتَ يَا أبَا عَلي سَبِيلُكَ أنْ تَقتَدِيَ بِهِم ، ولا تُخَالِفَهُم وتُنْزِلَنِي مَنزِلَةَ مُعاويَة عَلى رأيكْ !! ، وتُنزِلَ عَدُوّي هَذَا ابن نُوحٍ مَنزِلَةَ عَلّي بن أبي طالبٍ (ع) ! ، فَلا تُقَاتِلنِي كَمَا لَم يُقاتِل سَلفُكَ مُعاوية، وتَخَلَّ بَينِي وبَينَهُ ، كَمَا خَلَّى سَلَفُكَ بَينهُمَا، فَتكُفَّ عَن قِتالِ أهل الشهادَتين، كَمَا كَفَّ سَلَفُك، وتَجَنّب مُخالَفَة أئمّتِكَ الذينَ تَقتَدِي بِهِم ، ولا سِيّمَا فِيمَا يَتعلّق بِإرَاقَة الدّمِاء، فَافْهَم يَا أبا عَلي مَا ذَكرتُ لَك ، فَإنهُ مَحضُ الإنْصَاف ). قالَ: فقلتُ لَه: لَقَدْ أنصَفَكَ الرّجُل -أيها الأستاذ- فِلمَ تَكرَهُه؟ فَقَال: نَكرهُه لأنّهُ يُحسِنُ أنْ يُورِدَ مِثلَ هَذهِ الحُجّة، ولأنَّهُ يَرِدُ مُتقلّداً مُصحَفَهُ وسَيفَه، ويقول: ( قالَ أبي رَسول الله (ص): ((إني تاركٌ فيكم الثقلين كتاب الله وعترتي أهل بيتي)) ، فَهَذا هُو كِتابُ الله أكَبرُ الثّقلَين ، وأنَا عِترَةُ رَسولِ الله (ص) أحَدُ الثّقلَين )، ثمّ يُفتِي ويُنَاظِر ، ولا يَحتاجُ إلى أحَد ، أمَا سَمَعتَ مَا قَالَه فِي قصيدةٍ له، قال: وأنشدَ هَذا البيت:

تَدَاعَا لقتل بَني المُصطفَى = ذَوو الحَشوِ مِنهَا ومُرّاقها ))

شيء من شعر الإمام الناصر (ع) :

* قال (ع) راثياً الدّاعي محمد بن زيد الحسني (ع) :

الدّينُ والدّنيا تَظلُّ تفجعُ = أم أنت على الدّاعي تبكي وتجزعُ
وكانَا بهِ حيينَ طول حياته = فقَد أصبحُوا ماتوا جميعاً وودّعُوا

إلى قوله (ع) :

تَساوىَ الوَرَى في هلكهِ بعدَ مُلكهِ= فَكُلّهُموا فيه مُعزّىً مُفجَعُ
فلَم أرَ إلاَّ ضاحكاً في حياتِه= ومُذ ماتَ إلاَّ باكياً يَتوجّعُ
فلا عُذرَ إذْ لَم يَدفع الموتُ دونهُ= وكُنّا بهِ ريبَ الحوادِثِ نَدفَعُ
على أنّهُ لَو شاءَ نجَّاهُ سيفهُ= وطَرفُ كلمحِ البرقِ أو هُو أسرعُ
ولكن أَبَى إلاَّ التأسّي بِعُصبَةٍ= لآلِ رَسولِ الله بالطّفِّ صُرَّعُ

إلى قوله (ع) :

ومَا ماتَ حتّى ماتَ مِن خَوفهِ العِدا= وكانَت بهِ في نَومِها تتفزّعُ
ولله ماذَا ضمّ حولَ ضريحهِ= وأعجبُ منهُ كيفَ لا يَتصدَّعُ
وكانَت به الدّنيا تضيقُ بِرحبِهَا= تظلُّ وتُمسي منهُ تخشَى وتطمعُ

* ومن شعرِه (ع) ، قالهُ غضباً لله وللرسول (ص) :

ولمّا رأيتُ اعتداءَ العِباد = وإظهارُهُم كلُّ ما لا يَحِل
وعَقدُ الإمامة للفاسقين = وكلُّ ظلومٍ ظَلولٍ مُضِل
وخُمسُ ذَوي الخُمسِ ما بينهُم= لِلَهوٍ لَهُم دُولَةُ مُبتدَل
وكانَ لهُم عِللٌ مِن دِماءِ= بني المُصطفى بعد وردٍ نَهَل
نَهضتُ ولَم أبتئس بالذي= أراهُ بجورِ الورى قَد شَمَل
على الله في كُلّ ما قَد أروم= وأسعَى لإصلاحِهِ أتَّكِل
وما الله عَن خَلقِهِ غافلٌ= ولا اللهُ عَن خَلقِهِ قَد غَفَل

* ومن رائع شعره (ع) ، وقَد كانَ يشقّ ما بين الصّفين في الحروب ، مُتقلِّداً مُصحَفَهُ ، وسيفه ، ويقول : ( أنا ابنُ رسول الله ، وهذا كِتابُ الله ، فمَن أجابَ إلى هذا – المُصحَف- ، وإلاَّ فهذا – السيّف – ) .

شيخٌ شَرَى مُهجَتهُ بالجنّة= واستنَّ ما كانَ أبوهُ سنّه
ولَم يَزَل عِلمُ الكتابِ فنّه =يُقاتلُ الكُفّارَ والأظنّه
بالمشرفيات والاسنّة

* ومن شعره (ع) ، يحثُّ نفسهُ على الصبر والجلَدُ على البلوى :

واهاً لنفسي من حَيارَي واهاً = واهاً لها إنْ سَألَت مُناها
كَلّفتُها الصبرَ على بَلواها = ورضع مرّ الحقّ مُذ صِباها
ولا أرَى إعطاءها هَواها = أريدُ تَبليغاً بها عَلياهَا
في هذهِ الدّنيا وفي أُخرَاها = بكُلِّ ما أعلَمُ يُرضي الله

بينَ الإمام النّاصر الأطروش الحسيني والإمام الهادي إلى الحق الحسني :

لا بدَّ وأن تتحققّ مقولَة نبي هذه الأمّة محمد بن عبدالله (ص) ، في أهل بيته ، من أنّهُم الثِقَلُ الأصغرُ الملازمُ للثقلِ الأكبر كتاب الله تعالى ، وأنّهم سفينة نوح لأمّة محمد ، الراّكبُ بها ينجَو ، والمُتخلِّفُ عنها يهلك ، والمُقتبسُ من عُلومِهِم هُو المُهتدي ، والمُستنيرُ بغيرِ هديهِم هُو المُدَلِّسُ والمُدلّسُ عَليه ، والحائد على نهج محمد (ص) ، انظُر يا بن آدم وحوّاء ، كيفَ اجتمعَت كلمةُ آل البيت (ع) تحتَ رايةٍ واحدة ، انظُر علمَ النّاصر الأطروش الحسن بن علي الحسيني الأصل ، في أقصى الشمال ، بلاد الجيل والدّيلم وطبرستان ، وانظُر علمَ الهادي إلى الحق يحيى بن الحسين الحسني الأصل ، في أقصى الجنوب ، بلاد اليمن ، انظُر الهادي إلى الحق (ع) يصف النّاصر الأطروش فيقول : ((النّاصِرُ عالمُ آلِ مُحمّد ، كَبَحرٍ زاخرٍ بعيدُ القَعر )) ، وانظُر النّاصر يسمعُ بعضَ أصحابه وهُو يقول عن الهادي إلى الحق (ع) : كانَ ذلكَ والله فقيهاً ، فضحِكَ النّاصر (ع) ثمَّ قال : (( كانَ ذلكَ من أئمّة الهُدَى )) ، أيضاً انظُر النّاصر الأطروش (ع) ، يبيكي بنحيبٍ ونشيج لمَّا بلَغَهُ وفاة الهادي إلى الحق ( سنة 298 هـ ) ، وقال (ع) في ذلك المصاب : (( اليومُ انهدَّ رُكنُ الإسلام )) ، هذا ولا يفوتُك أن تتأمّل علاقَة أبناء زيد بن الحسن السبط وعلى رأسهِم الدّاعيَين العظيمين الحسن بن زيد وأخوه محمد بن زيد (ع) ، بالنّاصر الأطروش ، وانظُر علاقَة الدّاعي الحسن بن زيد الحسني الأصل بثائر أهل البيت وإمامها في الكوفة يحيى بن عمر الحسيني الأصل ، ثمّ استلهِم أنّ عمّ يحيى بن عُمر هُو فقيه آل مُحمّد وحاكي إجماعاتهم الحسن بن يحيى بن الحسين بن زيد بن علي (ع) ، واستلهِم أنَّ عمَّ الحسن هذا ، هُو فقيه آل مُحمّد أحمد بن عيسى بن زيد بن علي (ع) ، ثمّ استلهِم أنّ هذينَ العَلمَين من جهابذَة آل محمد ومعهُم زاهد آل محمد عبدالله بن موسى الجون بن عبدالله المحض الحسني الأصل ، مُبايعينَ لأخيهم وابن عمّهم نجم آل الرّسول القاسم بن إبراهيم الرسي الحسني الأصل ، ويلتقونَ معهُ في علومهِ ومَذهبهِ ، كما يلتقي الهادي إلى الحق في اليمن ، والناصر الأطروش في طبرستان ، والحسن بن زيد في الري ، ويحيى بن عمر في الكوفة ، معَ سلفهِم الساّبقين من أهل البيت (ع) ، فتأمّل كيفَ أنَّ الجميع اجتمعَوا تحتَ مَذهبٍ واحِد ، وهُو مَذهبُ أهل البيت (ع) ، مَذهبُ الإمام زيد بن علي (ع) .

ولكنَّ العَجب كلّ العَجب لأناسٍ لا يَعرفونَ عن هذه الأسماء شيئاً ، ويزدادُ العجب عندما نَجدهُم هؤلاء النّاس يتشدّقون بحبّ أهل البيت واتبّاعهِم والركوب في سفينتهم ، وهُم لا يَعرفونَ إلى هؤلاء الأعلامِ ولا إلى عِلمِهِم طريقاً ، ولا نَدري أعَصبيّةٌ أو جهلٌ بهم؟! وقَد يُعذر غيرُ أبناء الحسن والحسين في جهلِ هذا ( بَل لا يُعذرَون !! ) ، ولكن ما بالُ أبناء عليٍِّ وفاطمة السادة الأشراف ، يلتهمونَ عُلومَ غير أهل البيت ، ويصدّون على مَعدن العِلم ؟ يلتهمون كُتبَ الشافعي ومالك وأحمد بن حنبل وأبو حنيفة – رضوان الله عليهم – ، ويقولون هذا دينُ أهل البيت ؟ أئذا قالَ قائلٌ : قالَ زيد بن علي ، وقال أحمد بن عيسى ، وقال عبدالله بن موسى ، وقال القاسم الرسي ، وقال الحسن بن يحيى ، وقال محمد بن القاسم الرسي ، وقال الناصر الحسن بن علي الأطروش ، وقال الهادي إلى الحق يحيى بن الحسين : أنّ هذا المَذهب الذي نحنُ عليه ، هُو مَذهبُ آباؤنا الفاطميين ، القريبي العهدِ بنا ( حيث أنّ مَن ذكرنَا بينَ مُعاصرٌ للقرن الأول أوالثاني أوالثالث)، وهل يَجدرُ بنا بعدَ ذلك أن نقول ، قال ابن تيمية ، وقال السبكي ، وقال ابن القيم ، وقال ابن الجوزية ، وقال ابن عبدالسلام ، وقال ابن حجر : أنَّ مَذهبَ أهل البيت هُو هذا المَذهَب الذي نحنُ عليه ؟!!

وسَنَدعُ صاحِبَ الترجمة ، الإمام الناصر الكبير الأطروش الحسن بن علي (ع) يُجيب ، فيقول (ع) :

لا تّتبعُوا غيرَ آل المُصطفى عَلَماً = لِهديِكُم فهُم خيرُ الورى آلُ
آلُ النبيّ وعنهُ إرثُ علمِهِمُ= القائمونَ بنُصحِ الخلقِ لم يآلوا
وقولُهُم مُسندٌ عن قولِ جَدِّهِمُ= عَن جبرئيلَ عن الباري إذا قَالوا

تراث النّاصر الأطروش (ع) الفكريّ المجيد :

للإمام الناصر (ع) من المؤلفات الجم الكثير ، وله اجتهاداتٌ في الفقه تميّزَ بها ، وانتسبَ أصحابهُ ومُقلّدوا اجتهاداته إليه ، فأُطِلَق عليهم الزيدية الناصرية ، وكذلكَ الحالَ معَ مَن قلَّد الإمام القاسم الرسي في اجتهاداته الفقهية ، سمّوا الزيدية القاسمية ، وهُو أيضاً ما حصلَ مع مَن قلّد الإمام الهادي إلى الحق في اجتهاداته الفقهية سمّوا الزيدية الهادوية، ولا يعني هذا أنَّ هذه الفَرقَ من الزيدية لها أصولٌ في عقائدها مُختلفةٌ عن بعضها البعض ، فعقائدها واحدَة ، وإنّما الخلاف بينها في الأمور الفقهية الفرعية الاجتهادية ، التي لا يختلفُ أهلُ العِلم في يسورة وسهولَة الاختلاف فيها ، فليتنبّه الواقف على هذا ، ولا يغترّ بما سطّرته كُتبُ الملل والنحل ، وليجهَد في البحث عن صَدق كلامنا .

ومن تراثه الفكري (ع) :

1- البساط .
2- الاحتساب .
3- النّاصريات ، كتاب في الفقه .
4- التفسير ، احتجّ فيه بألف بيت من الشعر من ألفِ قصيدَة .
5- الحجج الواضحة بالدلائل الراجحة في الإمامة . ( الإمامة ) .
6- الأمالي في الحديث ، وأكثرُه في فضائل العترة (ع) .
7- المغني .
8- المسفر . حكاه عنه الإمام المنصور بالله عبدالله بن حمزة الحسني في الشافي.
9- ألفاظ الناصر . ( رتّبهُ أحد تلامذته كان يحضرُ لديه ، ويكتُبُ ألفاظه ) .
10- الباهر في الفقه . ( جَمعهُ بعض علماء عصره ) .
11- الحاصر لفقه النّاصر ، جَمعه الإمام المؤيد بالله أحمد بن الحسين الحسني .
12- الناظم في فقه الناصر ، جمعه الإمام المؤيد بالله .
13- الإبانة في فقهه ، مشروحة بأربعة مجلدات كبار ، للشيخ أبي جعفر الهوسمي.
14- أمهات الأولاد .
15- الأيمان والنذور .
16- فدك والخمس .
17- الشهداء وفضل أهل البيت .
18- فصاحة أبي طالب .
19- كتاب معاذير بني هاشم فيما نقم عليهم. وغيرها .

وفاته (ع) ، وموضع قبره :

توفي الإمام الناصر (ع) ، ولهُ من الأولاد : أبو الحسن علي الأديب الشاعر، وأبو القاسم جعفر، وأبو الحسين أحمد ، توفي (ع) بعدَ حياةٍ مليئةٍ بالكفاح والجهاد ونشر العلم ، وذلك سنة 304 هـ ، في الخامس والعشرين من شهر شعبان ، 25/ 8 / 304هـ ، وله من العمر نيف وسبعون ، وفي ذلك يقول (ع) مُنشئاً :

أنافَ على السبعين ذا العامُ رابعُ = فلا بُدَّ لي أنّي إلى اللهِ راجعُ
وصِرتُ إلى حدّ تقوّمني العَصا = أدبُّ كأنّي كُلّما قُمتُ راكعُ

وقُبِرَ (ع) في مدينة آمل عاصمة طبرستان ، وإلى ذلك يُشير الشاعر ، ذاكراً قبرَهُ (ع) في آمل ، وقبر الإمام الهادي إلى الحق يحيى بن الحسين (ع) في صعدة :

عَرّج عَلى قَبرٍ بِصَعـ = ـدَة وابْكِ مَرمُوسَاً بآملْ
واعلَم بأنّ المُقتدِي= بهِمَا سَيبلُغُ حَيثُ يَاملْ

وقامَ بعد النّاصر الأطروش علمُ العترة المحمديّة الدّاعي الحسن بن القاسم بن الحسن بن علي بن عبد الرحمن الشجري بن القاسم بن الحسن بن زيد بن الحسن بن علي بن أبي طالب (ع) .

 24/12/1425هـ

المصادر :

– الإفادة في تاريخ الأئمة السادة للإمام يحيى بن الحسين الهاروني الحسني (ع) .
– المصابيح لأبي العباس أحمد بن إبراهيم الحسني (ع) .
– الشافي للإمام المنصور بالله عبدالله بن حمزة الحسني (ع) .
– التحف شرح الزلف للإمام مجدالدين بن محمد المؤيدي الحسني (ع) .
– مقدمة الاحتساب ، للمحقق عبدالكريم أحمد جدبان .
– أعلام المؤلفين الزيدية للسيد عبدالسلام عباس الوجيه .

وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وعلى آله الطيبين الطاهرين .

سير أئمة أهل البيت عليهم السلام

ترجمة الإمام المؤيد بالله أحمد بن الحسين الهاروني عليه السلام

بسم الله الرحمن الرحيم

والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين ، سيدنا محمد النبي الأمين ، وعلى آله الغر الميامين ، ورضوانه على الصحابة الراشدين والتابعين لهم بخيرٍ وإحسانٍ إلى يوم الدين .

الإمام أحمد بن الحسين الهاروني ابن رسول الله :

نسبه :

هُوَ الإمام المؤيد بالله أبو الحسين أحمد بن الحسين بن هارون بن الحسين بن محمد بن هارون بن محمد بن القاسم بن الحسن بن زيد بن الحسن السبط بن علي بن أبي طالب عليهم السلام.

مولده :

وُلِدَ (ع) بآمل طبرستان في الكلاذجة ، سنة 333 هـ . ( وآمل اليوم هي ( محافظة مازندران الإيرانية ، والكلاذجة موضعٌ أيضاً في إيران ) .

نشأته (ع) :

نشأ (ع) على مكارم الأخلاق ، وحميد الفِعال ، صاحبُ ذهنٍ سيّال وعزيمةٍ في طلب العلم والحقّ قويّة ، آثر مشربَ الآباء الأخيار من أهل البيت (ع) ، فاجتهد في إعلاء مذهبهِم ومسلكهِم في العدل والتوحيد على مذهب الزيدية الكرام ، فاختلف على أبي العباس حافظ أهل البيت (ع) أحمد بن إبراهيم بن الحسن بن إبراهيم بن الإمام محمد بن سليمان بن داود بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب (ع) ، وأخذَ عنه علوم أهل البيت (ع) ، ( وأبو العباس شيخ المؤيد بالله ، كان تلميذاً عند الإمام الناصر الأطروش الحسن بن علي بن الحسن بن علي بن عمر بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب (ع) ) ، ,ودرس المؤيد بالله (ع) أيضاً ، على فقيه الزيدية علي بن إسماعيل بن إدريس رحمه الله تعالى ، وهكذا كانت حياة الإمام المؤيد بالله الهاروني (ع) ، حياةً مليئةً بالجد والاجتهاد والمثابرة في طلب العلم ، وله مواقف مشهورة تؤيّد كلامنا زبرتها كتب السّير ، لعلّنا نذكر بعضها في قادم كلامنا عنه (ع) .

ِ
خِطبَته (ع) و زواجه (ع) :

استصحبَهُ أبوه يوماً لزيارة الشريف أبي الحسين يحيى بن الحسن الحسني الزاهد ، فلمّا دخل عليه رحَّب به ، وخطبَ منه ابنته ( الحسنى ) لابنه المؤيد بالله ، فأشفعه الشريف ورحّب به ، وقال : إنه لا يَصلح لها غيره ! ، وذكر صاحب سيرة المؤيد بالله (ع) ، أنّه كان يقول : أنّها لمّا زُفَّت ، بَقِيَتْ في الصلاة ليالي متوالية إلى الصباح ، وأنا أستحي أن أعترضَ لها ، وساعَدتُها في العبادة ، فلَم أرَ أزهدَ منها ، ولا أستَر ، فعاشَرتُها سنين ، ثمَّ مَضت إلى رحمة الله في شبابها ، ( وقبرُها يُزار في الكلاذجة ) .

ورعَه (ع) :

كان (ع) في الورع والتقشّف والاحتياط والتقزّز إلى حدٍ تقصُر العبارَة دونَه ، وليسَ أدلّ على هذا التقشّف والورع إلاَّ كتابه ( سياسة المُريدين ) ، فمن طالعَه وجدَ هذ جليّاً فيه . وهُنا نطرحُ نماذجاً من ورعه وتواضعه على جلال قدره (ع) :

نماذج من ورع وتواضع المؤيد بالله (ع) :

* قال صاحب سيرته : كان المؤيد بالله (ع) يحملُ السّمك من السّوق إلى داره قَمعاً لنفسِه ، وكسراً لهواه ، وقسراً لتكَبّره ، وكانت الشيعة يتشبّثون به ويتبرّكون بحملِ ما معهُ من متاع ، فلا يُمَكّنُ أحداً من حملِه ، ويقول : إنّما أحملُهُ قسراً للهوى ، وتركاً للتكبّر ، لا لإعواز مَن يَحمِلُه .

* قال صاحب سيرته : كان المؤيد بالله (ع) يُجالس الفقراء ، وأهل المسكنة ، ويُكاثر أهل السّتر والعفّة ، ويميلُ إليهم ، ويَلبَس الوسط من الثياب القصيرى إلى نصف السّاقين ، قصيرة الكمّين ، وكان يَرقعُ بيده قميصه ، ويشتملُ بإزار إلى أن يَفرغَ من إصلاحه ،وكان يلبسُ قلنسوة من صوفٍ أحمر مُبطّنة يحشوها بقطن ، ويتعمّم فوقها بعمامةٍ صغيرَة متوسّطة .

* قال صاحب سيرته : كان المؤيد بالله (ع) يردّ الهدايا والوصايا إلى بيت المال ، وكان يُكثرُ ذكرَ الصالحين ، وإذا خلا يتلو القرآن بصوتٍ شجّي حزين ، وكان غزير الدّمع كثير البكاء ، دائمُ التّفكر ، يتأوّه في أثناءه ، وربّما تبسّم أو كشّر عن أسنانه ،وقال القاضي يوسف ( وهُو خطيبُ الإمام ) : صَحبتُه ستّة عشرة سنة ، فلَم أرَهُ مُستغرقاً في الضّحك .

تنبيه : تأمّل أخي القارئ ، أنّ صاحب هذه الصفات السّابقة ، كان صاحب منزلةٍ رفيعة بين أصحابه ، بل كانَ إماماً يتبعه مأمومين كثيرين ، تُجبى إليه العشور والزكوات ، ومع هذا وذاك فقد كانَ حالُه ما ذكرنا ، فلله درّه من إمام .

خروجه ودعوته :

كان دأب أهل البيت (ع) ، إعلاء سنّة جدّهم محمد بن عبدالله (ص) ، والأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر ، وكذا كان أئمة الزيدية الذين هم سادات بني الحسن والحسين (ع) ، آمرونَ بالمعروف ناهين عن المنكرَ مُقتفين نهج أبي الحسين زيد بن علي بن الحسين ، وآباءه الكرام عليه وعليهم السلام ، فلا يكادُ يقرّ لهم قرار ، والمُنكَر فاشٍ ظاهر في النّاس ، ولا يٌارّون على كظّة الظالم ، ولا سَغبِ المظلوم ، وهُنا عزم المؤيد بالله (ع) على التمّثل بمثال آباءه الكرام ، ففجّر دعوَة الحق في مشارق الأرض ، ودعا إلى إلى إقامة الكتاب والسنّة ، فأجابَهُ جمعٌ غفير من أهالي الجيل والدّيلم ، وحصلَ أن خرجَ من الرّي في الخَرجَة الأولى فوافى بلاد (جيلان) ونزلَ قريةً يُقال لها (كازرون) ، ونزلَ في مسجدً رجلٍ يُقال له بهرام بن تيجاسف ، فاحتشدَ أهل تلك البلاد على هذا المسجد ( لمجرّد معرفتهم المُسلقة أنّه سينزلُ في هذا المسجد ) وهُم لا يعرفونَ المؤيد بالله (ع) ، بعينهِ وشخصِه ، فحصلَ وأن سألَهُ أحدهُم : يُقال أنّ السيّد أبا الحسين في الطّريق ؟! ، فأجابه (ع) : نعَم ، أنا أبو الحسين الهاروني . فبَرَز بهرام صاحب المسجد ، ودعَا بالطّبال ، وأمرَ بضربِ الطّبل ، ليحتشد النّاس على أبي الحسين (ع) ، نُصرةً له ومعاونة ، فخرجَ معه من تلك القرية سَبعونَ رجلاً من فرسانهم ، وحينها ، عزمَ الإمام المؤيد بالله (ع) الخروج إلى بلاد (هَوسم) ، وأميرها إذ ذاك شوزيل بن وشمكير ، فلمّا وصل (ع) إلى هوسم ، استعدَّ للقاءه جُند شوزيل يُريدون حربَ الإمام ، فجاوزَهم (ع) ولم يشتبِك معهُم ، مُتّجهاً إلى قرية (كذكاهان) ، ونزلَ في دارِ أحدهم ، فلمّا جاء الغد ، دخلَ عليه ، حوّى الدّلمي مع زهاء سبعمائة رجل ، فبايعوه ، وقويَ جانبُ الإمام ، وانتقلَ (ع) بمنَ معه إلى قرية (كُذَة) وأقام بها حدود سبعة أيام ، وكان يشدّد على أصحابه أن يأخذوا شيئاً ( ثمر أو غيره ) من النّاس دونَ إذنهِم ، وكان (ع) يجعَلُ بارعاً في سياسَة الحروب ، فكان يَجعلُ مَن يتقدّمهُ من أتباعه حتّى يأتيهم بأخبار الطريق أمامهم ، وهُنا لمّا قويَ جانبُ الإمام (ع) ، تقدّم نحو هوسم مُحمّلا بعزيمة تطهيرها من الخنا والفسوق والفجور ، وركز راية جدّه رسول الله (ص) فيها ، وأن يُحكمَ فيها بحُكمِ ثِقَل الله الأصغر ( أهل البيت (ع) ) ، المُلازمون للثقل الأكبر ( القرآن الكريم) والغير منفكّون عنه مادامت السماوات والأرض . فاستعدّه له شوزيل ومَن مَعه ، ودارَت رحا الحرب ، واستبسلَ المؤيد بالله (ع) ومنَ معه حتّى فتح الله على يديه بلاد هوسم ، فحكم فيها بالكتاب والسنّة ، وانهمَلَت بركات محمّد وآل محمّد على هذه البلاد ، شاع العدل والأمن ، واستبشَر النّاس به . وكان شوزيل فرّ إلى بلاد جيلان ، وكان يتأهّب هُناك للعودة إلى هوسم ، وفعلاً عاد بعد سنة إليها بجيش كبيرٍ جرّار ، وحاربَ المؤيد بالله (ع) بباب هوسم ، واستبسلَ شيعة المؤيد وأتباعه ، ممّن كانوا لا يرونَ التولّي يوم الزّحف ، وترك إمامهم ، إلاّ أن الدائرة كانت لشيزويل ، وأُخِذ المؤيد بالله أسيراً ، وأُخِذ إلى جيلان في قرية تسمّى (كحلوم) وبها سُجِن ، وبقي في سجنه أيّاماً ، والمُسلمون مُجتمعون على الوالي أن يُطلَقَه ، وهُوَ يأبى عليهم ، ويقول : إنّه – يعني المؤيد بالله – قتلَ خازني وضاع بسببه خمسة وعشرون ألف درهم ، فيا سبحان الله هذا همّه الإصلاح ، وذاك همّه جمع المال ، فلمّا سمع ذانكين التجني بهذا ، أتى إلى الوالي وضَمِنَ هذا المال عن المؤيد بالله ، فأطلَق المؤيد (ع) بعد أيامٍ من حبسه .

ثمّ عاد المؤيد بالله (ع) إلى (برفجان) ، ونفسه مكسورةٌ ، والعزم على التأسي بعزم آباءه ما زال يملأه ويُغطّيه ، فما لبثَ (ع) في هذه البلاد ، حتّى أتته رُسل كبار الجيل والدّيلم يقولون له : إنْ وَردتَ علينَا بَذلنا أموالنَا ، ونُفوسنا لأجلك . فاستجاب (ع) ، عند توفر الناصر والمعين ، وتسارَع النّاس في تلك البلاد على بيعته ولم يتخلّف عنه أحد ، إلاّ رجلٌ يُسمّى (باكر) ومعه نحو عشرة أشخاص ، فعاد (ع) لاستعادة هوسم من شوزيل ، الذي كان حينها في طبرستان ، وأمّر عليها في غيباه رجلٌ يُقال له أبو زيد ، فلمّا علمَ أبو زيد هذا بقدوم الؤيد بالله في جيشٍ كبير ( بلغَ سبعة ألاف رجل ) ، تركَ هوسَم ، وانزى إلى موضعٍ يُقال له (كلوا) ، فتبِعَه المؤيد بالله (ع) وحاربَه وهزمَه هُناك ، ولَم يظفر بشخص أبو زيد ، فعاد المؤيد (ع) إلى هوسم وأقام بها سنتين ، حافلةٌ بالأمر والمعروف والنّهي عن المنكر ، وتعليم النّاس أمور دينهِم ، من حلالٍ وحرام ، ومعاملاتٍ وعبادات ، وولاءٍ لأهل البيت (ع) أبناء الحسن والحسين ثقل الله الأصغر في الأرض ، وعادَ أبو زيد الأمير إلى المؤيد بالله وأظهر التوبة والنسك ، وباطنه الانقلاب ، وكان يسعى جاهداً لنخر بطانة المؤيد بالله ، حتّى تمكّن وأطاح بالمؤيد ، فخرج منها (ع) ، وعاودها (ع) ، وعاوَد أبو زيد مرّة أخرى ، وكان الخذلان من النّاسل دعوته ، وميلهُم إلى الدّنيا ، قد آلمته ، وذلك لخذلان أصحابه القُدامى من أهل جيلان بعد العهود الموثّقة ، وعبّر عن هذا (ع) قائلاً :

فَررتُ من العداة إلى العدة ***** وكُنتُ عَددتُهم زمر الثقات
لقَد خابَت ظنوني عندَ قومٍ ****** يَرونَ حاسني من سيئاتي
يُهيجون الغواة عليّ هيجاً ****** وهُم شرٌّ لديّ من الغواة

وكذا كانت حياة الإمام (ع) ، جهادٌ وأمرٌ بمعروف ونهيٌ عن مُنكر ، ولولا أنّ هذا مقام اختصار ، لطوّلنا ، و لكنّا نُحيل إلى كتاب سيرته ففيها الكفاية بإذن الله تعالى .

علمه (ع) :

كان (ع) عارفاً باللغة والنحو ، مُتمكّناً من التصرف في منثورها ومنظومها ، وكان يعرف العروض والقوافي ، ونقد الشعر ، وكان فقيهاً بارعاً ، مُتقدّماً فيه مُناظراً ، وكان مُتقدّماً في علم الكلام وأصول الفقه . وهُنا نذكر نماذج عن سعة علمه وفضله (ع) .

نماذج في سعة عِلمه وفضله (ع) :

* قال صاحب سيرته : حكى الشيخ أبو طالب بن أبي شجاع ، عن الشيخ أبي رشيد أنه قال : لم أرَ السيَد أبا الحسين مُنقطعاً قط ( في المناظرات ) ، مع طولِ مُشاهدتي له في مجلس الصاحب ( ابن عباد ) ، وكان لا يُغلَب إن لَم يَغلِبْ .

* قال صاحب سيرته : حُكي أنّ الصاحب ( ابن عباد ) قال ذات ليلة للحاضرين ، لِيَذكُر كل واحد منكم أمنيته ، فذَكروا ، قال : أمَّا أُمنيتي فمجاورة الشريف أبي الحسين بن هارون .

* قال صاحب سيرته : وحُكي أنّ يهودياً مُتقدّماً في المناظرة والمجادلة ، قَدِم على الصاحب ( ابن عباد ) ، فاتفق أنّه (ع) حضر مجلس الصاحب ، فكلّم اليهودي في النبوات حتّى أعجزه وأفحمه ، فلمّا قام من المجلس ليَخرُج ، قال له الصاحب : أيّها السيّد ، أشهَد أنّك أوتيتَ الحِكمة وفصل الخطاب .

* قال صاحب سيرته : وحُِكيَ أنّهُ وردَ عليه من (كلاّر) مسائلٌ صعبة على أصول الهادي ( إلى الحق يحيى بن الحسين بن القاسم الرسي ) ، وهذه المسائل موجودة ، فقال الصاحب ( ابن عباد ) : لَستُ أعجبُ من هذا الشريف كيفَ أتى بهذا السحر ( وذلك عندما أجاب على المسائل ) ، وإنّما أتعجّب من رجلٍ بكلار كيف اهتدى إلى مثل هذه الأسئلة .

*قال صاحب سيرته : سمعتُ الشيخ أبا الفضل بن شروين رحمه الله يقول : دَع إمام زماننا ( يعني المؤيد بالله ) إنّما الشك في المتقدّمين من أهل البيت وغيرهم ، هَل كانوا مثل هذا السيّد في التحقيق في العلوم كلّها أم لا ؟!!

قلت : ولله قائلُ هذه العبارات ، ما أعظمَ وقعها على النّفس ؟

* قال صاحب سيرته : وسمعتُ ثقةً ، ( يقول ) أنّ المؤيد باالله حكمَ بقتلِ رجل ، وسلّمَهُ إلى أولياء الدّم ، فلما همّوا بقتله ، اغرورقت عيناه ، وجادَ بالدّموع ، فقال أولياء الدّم : ألسنَا نَقتُلُه بحكم الله وحُكمك ؟ ، فقال : بلى ، ولكنّ قلبي يحزنُ عليه من غير اختياري ، فعندَ ذلك عفا عنه أوياء الدم ، وتاب الرجل ، وحسنت توبته ، وجاهَدَ بين يديه جهاداً كبيراً .

تراث المؤيد بالله (ع) الفكري المجيد :

1- كتاب النبوات .
2- كتاب التجريد ( في فقه الإمام الهادي إلى الحق يحيى بن الحسين وجده نجم آل الرسول القاسم الرسي بن إبراهيم بن إسماعيل بن إبراهيم بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب (ع) ( 245-298هـ) .
ويمكن تحميله من خلال الرابط :
https://alzaidiahbooks.home.blog/2019/12/16/%d8%a7%d9%84%d8%aa%d8%ac%d8%b1%d9%8a%d8%af/
3- شرح كتاب التجريد ( 4 مجلدات ) ، ( على قول الهادي وجده القاسم الرسي ) .
4- كتاب البلغة ( في الفقه ، وهُو على مذهب الإمام الهادي يحيى بن الحسين (ع) ) .
5- كتاب نقض الإمامة على ابن قبة الإمامي . ( نقض فيه مذهب الجعفريّة في الإمامة ) .
6- كتاب التفريعات .
7- كتاب التبصرة ( في التوحيد والعدل ) .
8- كتاب الهوسميّات .
9- كتاب الزيادات .
10- الأمالي الصغرى ( مصنّف حديثي ) .
11- سياسة المريدين .
12- الآداب في علم الكلام .

وفاته (ع) :

توفي الإمام المؤيد بالله عليه السلام يوم عرفة سنة إحدى عشرة وأربعمائة ( 411هـ ) ، ودفن يوم الأضحى، وصلى عليه الإمام مانكديم ( هُو الإمام المستظهر بالله أحمد بن الحسين بن أبي هاشم محمد بن علي بن محمد بن الحسن بن الإمام محمد بن أحمد بن محمد بن الحسن بن علي بن عمر الأشرف بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب ، وهُو القائم بعد المؤيد بالله (ع) ) ، مشهده بـ(لنجا) ، وأُديمت الختمات ( قراءة القرآن ) على قبره شهر ، وبُنيَ عليه مشهداً ، وخلّف (ع) من الأولاد الأمير أبا القاسم وحده رضي الله عنه وأرضاه .

المصادر :

1- سيرة الإمام المؤيد بالله أحمد بن الحسين الهاروني ، لكاتبها الإمام المرشد بالله يحيى بن الحسين بن إسماعيل بن زيد بن الحسن بن جعفر بنبن الحسن بن محمد بن جعفر بن عبدالرحمن بن القاسم بن الحسن بن زيد بن الحسن بن علي بن أبي طالب ، ( . على كاتب السيرة وصاحبها أفضلُ السلام .

2- التحف شرح الزلف ، للإمام الحجة مجدالدين بن محمد بن منصور المؤيدي الحسني (ع) .

وصلى الله وسلم على سيدنا محمد ، وعلى آله الطيبين الطاهرين .

سير أئمة أهل البيت عليهم السلام

ترجمة الإمام الرضا الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب عليهم السلام

بسم الله الرحمن الرحيم

والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين ، سيدنا محمد النبي الأمين ، وعلى آله الغر الميامين ، ورضوانه على الصحابة الراشدين ، والتابعين لهم بخيرٍ وإحسانٍ إلى يوم الدين .

الإمام الرّضا الحسن بن الحسن ابن رسول الله :

نَسَبُه (ع) :

هُو الإمام الرّضا الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب ، عليه وعلى آبائه السلام.

مَولِدُه (ع) :

لم تُشِر المصَادر التاريخيّة إلى تاريخ ولادة إمامنا الحسن بن الحسن (ع) ، بالضبط والدقّة ، ولكنّها ذكرَت لنا ما نستطيعُ من خِلالِه استنتاج تاريخ مولده (ع) ، فهذا أبو العباس الحسني أحمد بن إبراهيم بن الحسَن بن إبراهيم بن الإمام محمد بن سليمَان بن داود بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب (ت353هـ) ، يذكرُ في كتابه (المَصَابيح) ، أنّ الحسن بن الحسن (ع) شاركَ في معركة كربلاء ، وعُمُرُه عشرون عاماً ، أو تِسعة عشرَ عاماً ، والمعلومُ أنّ واقعَة الطّف (كربلاء) وقعَت عام 61هـ ، فيكون تاريخ مَولِد الحسن بن الحسن (ع) بهذا في سنة إحدى وأربعين للهجرة (41هـ) ، وهي السنة التي صالحَ فيها الإمام الحسن السبط (ع) معاوية بن أبي سفيان ، وهُنا يكونُ هُناك احتمالان لمكان ولادَتِه صلوات الله عليه ، إمّا في الكوفة ، أو المدينة المنوّرة ، وهذا الالتباس فيزولُ على فرض أن مولِد الحسن بن الحسن (ع) كان في السنة الثانية والأربعين للهجرة (422هـ) ، (على افتراض أنّ عُمُرَهُ حال المعركة تسعةَ عشر سنة) ، فيكون مكان ولادته (ع) قطعاً بالمدينة المنوّرَة .

لَقَبُه (ع) :

لُقِّبَ الحسن بن الحسن (ع) ، بـ ((الرّضا)) ، وذلكَ لمّا اجتمعَ عليه أنصارُهُ ومُريدُوه –كما سيأتي- ، ورَضوا به إمَاماً لهُم ، فَسمّوهُ بهذا الرّضا ، والمعلوم أنّ سادات آل محمد من بني الحسن والحسين ، عندما تَنطلقُ دَعواتُهُم بالإمامة إلى الأمصار ، فإنّها تكونُ باسم الرّضا من آل محمد ، أي باسم مَن يرضاهُ ويرتضيهِ النّاس لِسَبَقِه بالخيرات ، فَلَصِقَ هذه اللقب (الرّضا) بإمامنا الحسن بن الحسن صلوات الله عليه وعلى آبائه الكرام ، وذلكَ لمّا ارتضوهُ إماماً فيما بينَهُم وبينَ رَبِّهِم ، وأجابَهُم وقامَ مَعَهُم .

ويُلقّب أيضاً بالحَسَن ((المُثنّى)) ، والظّاهر والله أعلَم أنّها تَسميَةٌ مُتأخّرةٌ على عَصِرِه (ع)، وهذا اللقب فَلِلتمييز بينَه وبينَ أبيه الحسن السبط ، وبين ابنه الحَسن المُثلّث ((الحسن بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب (ع) )).

والِدُهُ (ع) :

والِدُ إمامِنا الرّضا (ع) ، هُو إمامُنا الحسن السبط ابن إمامِنا علي المُرتضى ابن أبي طالِب ناصرِ رَسولِنا وقُدوتِنا محمد بن عبدالله (ص) ، فهُو كما تَرى فرعٌ من دوحة نبويّة علويّة باسقَةٌ يانِعَة ، والحسن بن علي (ع) فغنيٌّ عن التعريف والإطراء ، سِبطُ رسول الله ، وبِكرُ الوَصيّ والزّهراء ، وشبيهُ رسول الله (ص) ، سيّدُ النّاسً هيبةً وسُؤدداً .

والِدَتُه (ع) :

والِدَةُ إمامِنا الرّضا (ع) ، هِيَ خَولَة بنت مَنظور بن زَيّان (ويُقال ريّان ورَباب) بن سيّار الفِزاري الغَطفَاني رضي الله عنها ، تَزوّجَها الإمام الحسن بن علي (ع) ، فأعقبَ منها محمّد الأكبَر وبه يُكنّى ، والحسن بن الحسن .

نَشأتُه (ع) :

نَشأ الإمام الحسن بن الحسن (ع) ، في كَنف والدهِ الحسن السبط ، في دار جدّه علي ، وجدّته فاطمة البتول الزهراء (ع) ، عاشَ حياةً مليئةً بالإرهاب الأموي ، إذ أن فترةَ طفولته (ع) كانت من أسوأ الفترات التي تُحيط بأهل بيت النبّوة ، فعيون بني أميّة مُشدّدة الوطأة على كلّ داخلٍ للحسن بن علي ، وعلى كلّ خارجٍ من عِندِه ، ثمّ لم يلبث إمامُنا الحسن المثنّى (ع) ، وهُو في التّاسعَة من العُمُر ، إلاّ وقد استُشهِد أباهُ مسموماً (سنة50هـ) ، فتربّى في أحضانِ عمّه الحسين بن علي (ع) ، فأخذَ عنهُ شمائلاً علويّةً فاطميّةً محمّدية ، واغترَفَ من علومهِ غُرَفاً طالوتيّة ، فالحسن المثنّى يَقيناً لم يَكن يعتبِر نفسَهُ إلاّ عندَ والدِه بعد والِده ، ومن هُنا زادَ تعلّقُه بعمّه الحسين ، والحسين فكانَ يُكرمهُ ويُحبّه ، فَحصلَ وأن قصدَ الحسن بن الحسن عمّه الحسين يُريدهُ أن يُزوّجه إحدى بناتِه، فاختارَ لهُ الحسين فاطمة ابنته ، وكانَت أحبّ بناته إلى قلبهِ وأشدّهم شِبهاً بفاطمة الزهراء (ع) ، فعقدَ له الحسين عليها ، ولكن دونَ دخول ، وهذا فنُخمّن أن يكون في ما بين ((58-60هـ)) ، وهذا فيزيد الأواصر بين الحسن وعمّه قوّةً إلى قوّة ، نعم! تَشرّب إمامنا الحسن وصايا جدّه أمير المؤمنين الحاثّة على الأمر بالمعروف والنّهي عن المُنكر ، والقيام بحجّة الله في الأرض ، فَعَاشَ يُقاسي مع عمّه ظُلم معَاوية ، ثمّ ابنه يزيد ، المُنكَر يُؤمَرُ به ، والمعروفُ يُنهَى عنه ، أبو ترابٍ يُسبّ على المنابِر ، وآل بيتِ رسول الله مُضطهَدين ، الظُلم مُنتشِرٌ ، والأمن مُنعَدِم ، كلّ هذا جعلَ أبا عبدالله يَهُبّ هبّةَ الأسد ، ويزأرُ زأرَة الحقّ في وجه الظُلم ، أن لَو تُرِك القَطا لغفَا ونَام، فتحرّكَ بنفسهِ وأهل بيتهِ وأصحابه مُمتثلاً لأمر الله تعالى : ((وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ)) ، لَم يترُك إمامنا الحسن بن الحسن عمّه في هذه المعركة ، بل شاطرهُ فِكرَهُ وثورَتَهُ على الطّغيان ، هذا كلّه وعُمر الحسن بن الحسن عشرون سنة ، بَدأت المُعركَة واستبسَل الحسين وأهل بيته وأصحابه ، الكُلّ يَتسابقُ للنّصر أو الشّهادَة ، فاستُشهِدَ الحسين ، وقِتل عدّةٌ من أهل بيته وأصحابه ، وسقطَ إمامُنا الحسن بن الحسن على أرض المعركة مُثخناً بالجراح به رَمقُ الحياة ، فأرادوا أن يُخلّصوا عليه لولا تدخّل وتوسّط خَالِه أسماء بن خارجَة بن حصن الفزاري ، وخؤولته لهُ جاءت من جهة كونه فزاري قريب من بني المنظور بن زيّان والِد خولة أم الحسن بن الحسن ، نعم ! تَدخّل أسماء بن خارجة وأخذَ الحسن بن الحسن إلى بيته بالكوفة ، وهُناكَ عَمِلَ على مُعالجة جِراحه ، وبقيَ عندَهُ لمدّة ثلاثَة أشهر ، ثمّ عاد إلى المدينة المنوّرة ، وهُناكَ دخلَ بابنة عمّه فاطمة بنت الحسين (ع) ، وتفرّغ للعبادة ونشر العلوم ، مع الحُرقة على انتشار الفساد في البلاد ، وقامَ على صدقات وأوقاف جدّه أمير المؤمنين ، ولم يكُن من بني فاطمة في ذلك الزّمن من الرؤوس إلاّ هُو ، وأخوه زيد ، وابن عمّهما علي بن الحسين زين العابدين ، وكانَت تجمعُ الجميع رابطةٌ أخويّة قويّة ، مَبدَأهُم ومَذهبُهُم وهَدَفُهُم واحد ، فصلوات الله عليهِم وعلى آبائهم وأخيار ذريّتهِم إلى يوم الدّين .

بين الحسن بن الحسن ، والحجّاج بن يوسف ، وعبدالملك بن مروان (ع) :

في عام 74هـ ، ولّى الخليفة الأموي عبدالملك بن مروان ، الحجّاج بن يوسف الثقفي إمارَة المدينة المنوّرة ، وهُناك احتكّ بإمامنا الحسن الرضا (ع) ، وأرادَ أن يُرغِمَهُ على إدخالِ عمّه عمر بن علي رضوان الله عليه في صدقات أمير المؤمنين ، فرفضَ الحسن بن الحسن إدخالَهُ بعُذر عدم اشتمالِ شرط علي (ع) على هذا ، وأنّه لن يُغيّر شرط علي الذي اشترطَه في هذه الصدقات ، فلمّا رأى الحسن بن الحسن (ع) أنّ الحجّاج مُصرّ على مَوقفِه ، تغافلَهُ (ع) ، وخرجَ من المدينة ، قاصداً وشاكياً إلى الخليفة عبدالملك بن مروان ، وهُناك وفي قصر الخلافة طلب إمامنا الإذن بالدّخول على الخليفة ، فلقيَه رجلٌ يُقال له يحيى بن الحكَم ، فسالَ الحسن عَن حاجَته ، ووَعدَه أن ينفَعَه بين يدَي الخليفَة ، فما لبثَا إلاّ وقد أُذنَ لهما بالدّخول ، فاستقبلَهُما عبدالملك بن مروان ، وقال للحسن (ع) : لَقَد أسرعَ إليكَ الشيب يا أبا محمّد ، فقاطَعَهما يحيى بن الحكم ، قائلاً : ومَا يَمْنَعُهُ يَا أميرَ المؤمنين ، شَيَّبَهُ أمَانِيّ أهل العِرَاق ، كُلّ عَامٍ يَقدُمُ عَليهِ مِنهُ رَكبٌ يُمَنّونَهُ الخِلافَة. فردّ عليه إمامنا الحسن (ع) ، مُبيّناً أنّ هذا التمنّي ليسَ هُو سبب الشّيب ، فقال (ع) : بئسَ واللهِ الرّفد رَفدْت، وَليسَ كَمَا قُلتَ ، وَلكنّا أهْلُ بَيتٍ يُسرِعُ إلينَا الشّيب . وعُمُر الحسن حينها ثلاثة وثلاثون عاماً تقريباً ، نعم ! ثمّ أقبلَ عبدالملك على الحسن يَسألهُ عن حَاجَته ، فأخبرهُ الحسن (ع) بما كانَ من الحجاج ، ومُحاولته إدخال عمّه عمر في صدقات علي (ع) ، وهذا مُخالفٌ لشرط علي (ع) ، فأمر عبدالملك بكتابٍ للحجاج يَمنعه من التعرّض للحسن بن الحسن ، ثمّ انصرف الحسن بن الحسن والتقى عند باب القصر بيحيى بن الحكم ، فعاتبَهُ الحسن بن الحسن على ما كانَ منه ، ومن هذه المَنفعَة التي هي إلى الإيقاع أقرَب ، فردّ عليه يحيى بن الحكم ، قائلاً : إيهَاً عَنك، واللهِ لا يَزَالُ يَهَابُك، ولَولا هَيَبَتُهُ إيّاك مَا قَضَى لَكَ حَاجَة، ومَا ألَوْتُك رِفداً ، أي: مَا قَصَّرتُ فِي مُعَاوَنَتِك . وهُنا نَجِد يحيى بن الحكم يُشير إلى عقيدة الزيدية في الخروج بالإمامة من شامة بني الحسن ، الحسن بن الحسن بن علي (ع) ، وهُو لم يَقُل ما قالَهُ في حق الحسن ، إلاّ وهو يعرف عقيدَته الزيدية في الخروج ، ثمّ لَو لاحظنا الحسن بن الحسن وهُو يردّ على يحيى بن الحكم جعلَهُ أمانيّ أهل العراق هي السبب في ظهور الشّيب عليه ، لَو لاحظنَا ردّ الحسن لوجدناهُ ينفي أن يكونَ سبب ظهور الشّيب هو أمانيّ أهل العراق عند توافُدهم عليه ، ولكنّ سبب ظهوره هُو وراثَة في أهل بيته ، والشّاهد هُنا مع ما سبَق ، هُو أنّ الحسن المثنى لم ينفِ علاقَتَهُ بأهل العراق ، ونحنُ عندما نَذكُر هذا ، لا نَذكُرهُ إلاّ مُنّبهين لبعض الحُذّاق من الجعفريّة الذين يُريدون تثقيل طرَفِهِم بإثبات تمذهب سادات بني الحسن والحسين من غير أئمّتهم ، بإثبات تمذهُبِهِم بمذهب الجعفرية ، واعترافهِم بالنّصوص في حقّ بني عمومتهم ، وهذا فَذهابٌ إلى سَرابِ بقيعَة ، والأدلّة على هذا كثيرَة ، نذكُر منها ما يخصّ إمامَنا المُترجَم له ، نعني الحسن بن الحسن بن علي صلوات الله عليه وعلى آبائه ، فنقول : روَت الجعفريّة ، ونخصّ الطبرسي في إعلام الورى بأعلام الهُدى 1/490 ، وابن شهر آشوب في المناقب 3/2966 ، رَووا تهكّم وتطَاول الحسن بن الحسن بابن عمّه زين العابدين علي بن الحسين ، الذي هُو إمامهُ وحجّة الله عليه ، فقال ابن شهر آشوب : ((ونَالَ (تأمّل) مِنهُ [من زين العابدين] الحسَن بن الحسَن بن علي بن أبي طالب فَلم يُكَلّمهُ، ثمّ أتَى مَنزِلَه وَصَرَخَ بِهِِ فَخَرَجَ الحسن مُتوثّباً للشر(تأمّل)، فَقال (ع): يَا أخِي إنْ كُنتَ قُلتَ مَا فِيَّ فَأسْتَغفِرُ الله مِنه، وإنْ كُنتَ قُلتَ مَا ليسَ فِيَّ يَغفِر الله لك، فَقَبَّلَ الحسَن مَا بَينَ عَينيه ، وقَال: بَلى قُلتُ مَا ليسَ فِيك وأنَا أحَقّ بِه )) ، وهذا إن صحّ فدليلٌ على عدم اعتبارِ الحسن بن الحسن زين العابدين إماماً منصوصاً عليه ، مُفترَضَة من الله طاعته ، لأنّه (ع) صاحبُ القدر والعِلم وهذا فباعتراف شيخ الجعفرية الشيخ المفيد ، ومؤرّخيهم لا قولون بغير هذا فيه ، فكيفَ تَصدرُ منه مثلُ هذه الهفوة والتوثّب للشرّ ، والافتراء على إمام الزمان علي بن الحسين ، فلو كان هذا التصرّف من الحسن مع غير زين العابدين لقُلنا لا بأس ، ولكن أن يصِفَ إمامَ زمانهِ المعصوم صغيراً وكبيراً عن الخطأ أو حتّى مُجردّ السّهو والنسيان ، أن يَصفِهُ بما ليسَ فيه زوراً وبُهتاناً ، ثمّ هُو مَعَ هذا يَخرجُ عليه مُتوثّباً للشرّ ، فهذا ما لا تَقولُ به العُقلاء ، فإن أنتَ وَقفتَ على هذا ، عَرفتَ أنّ الحسن بن الحسن لم يكن يعتبر زين العابدين إماماً معصوماً منصوصاً عليه من الله والرّسول ، فافهم هذا ، واستحضِر ما سيأتي قريباً من ثبوت ادّعاء الحسن بن الحسن الإمامة وخروجه على الظلم.

كُتب ورَسائل وبَيعات ابن الأشعث تَفِد على الحسن بن الحسن (ع) :

في عهد الخليفة الأموي عبد الملك بن مروان ، ولّى الحجاج بن يوسف الثقفي ، عبدالرحمن بن محمد الأشعث الكِندي على سجستان ، فسارَ عبدالرحمن هذا إلى سجستان بجيشٍ عظيم قوامه ثلاثونَ ألفاً ، من جُملتهِم العُلماء والفقهاء والعَوام ، فلمّا تمكّن عبدالرحمن ابن الأشعث من سجستان ، أشارَ عليه الفُقهاء بخلع الظّلم والطّغيان ، أشاروا عليه بخلع عبدالملك والحجّاج ، فخلَعَهُم وسارَ بجيوشٍ تَحفُل إلى الشام ، وهُناك تصدّى له الحجاج بجيش عظيم ، وحصلَت بينَهم نيّف وسبعون وقعَة ، كانَت الغلبَة فيها كلّها لابن الأشعَث ما عَدى وَقعتين ، وهذا كلّه كان في ثلاث سنوات ، ما بين (81-83هـ)، وفقهاء أهل الكوفة كان رأيُ أكثرهم الخروج على الظَالِم ، الأمرُ الذي جعلَهُم يلتفّون حولَ ابن الأشعَث بتزايدٍ رَهيب ، نعم ! اجتمع هؤلاء الفقهاء بابن الاشعث وأشاروا عليه ونَصحوهُ بمُراسلَة أحد الفاطِمِيّيْن ، علي بن الحسين ، أو الحسن بن الحسن ، وأنّ هذا الأمر لا يَلتئمُ إلاّ لَهُم وبهِم ، وعِندي أنّ هذا كانَ في السنة الثالثة من حروب ابن الأشعث والحجاج أي في سنَة 83هـ ، فأخذَ ابن الأشعث برأيهِم ، وأرسلَ كتاباً إلى زين العابدين علي بن الحسين (ع) ، فامتنَعَ عن إجابَتهِم فيمَا دَعوهُ إليه ، ولعلّ زين العابدين (ع) كان يَخشى من الغَدر ، الذي نتجَ عنه مجزرةُ كربلاء ، وزين العابدين فكانَ كثيراً ما يذكُر وينتَحبُ على قتلَى كربلاء ، وهذا فدليلٌ على أنّ ذلك المنظر المأساوي الذي يتردّد أمامَ عينيه ، هُو الذي مَنَعَهُ من قبول بيعات أهل سجستان ، وليسَ هذا الامتناع منه (ع) تَهاوُناً في فريضة الأمر بالمعروف والنّهي عن المُنكر ، والجِهَاد للظّلمَة ، ولكنّه منهُ (ع) عدم توثّق من أمر المُبايعِينَ له ، نعم ! فلمّا يئسَ ابن الأشعث ومَن مَعه من استجابَة علي بن الحسين لهُم ، أرسلوا كتاباً ثانياً إلى ابن عمّه الحسن بن الحسن بن علي (ع) ، فظهرَ من الحسن بن الحسن بادئ الأمر من التخوّف والتشكّك مثل ما ظهرَ لعلي بن الحسين (ع) ، فقال لهم الحسن (ع) ، مُبيّناً لهُم حِرصَه على القيام بحجّة الله ، قال (ع) : ((مَالِي رَغْبَةٌ عَن القِيام بِأمْرِ الله، ولا زُهدٌ في إحيَاء دِين الله ، ولَكن لا وَفَاءَ لَكُم، تُبَايُعونَنِي ثُمّ تَخْذُلُونَنِي)) ، فأصرّ عليه القوم ، وتَعهّدوا عِندَهُ بالسّمع والطّاعة ، وحُسنَ الائتمَام ، فلَم يَجِد الحسن (ع) بُدّاً من القيام بفرض الإمامة والأمر بالمعروف والنّهي عن المُنكر ، كما لم يَجِد عمّه الحسين السبط (ع) بُدّا من الخروج وكُتب أهل الكوفَة تتوافدُ عليه من كلّ حَدبٍ وصَوب ، وهُنا لو تأمّلنا خِطابَ الإمام السّابق لهم ، لَوجدناهُ يُقيمُ عليهِم الحجّة بصدقِ النّصرَة ، ولَوَجدنَاهُ زيديّ الخروج والدّعوة والإمامَة ، ونقصدُ بالزيدي أي أنّ مبدأهُ هُو مبدأ الزيدية أتباع أهل البيت (ع) ، بني الحسن والحسين ، وإلاّ فإنّ عهد الحسن بن الحسن لم تكُن فيه هذه التسمية موجودة البتّة ، وما ظهرَت إلاّ بعد زيد بن علي (ع) ، نعم ! فلمّا أجابَ الحسن بن الحسن الرُّسُلَ استبشرَ الفقهاء وأصحاب ابن الأشعث بهذا الأمر أيّما بِشر وسرور ، وأجمعوا على تَلقيبه (ع) بالرّضا ، لمّا ارتضَوه إماماً وقائداً لهُم ، وفي ذلك يقول شاعرُهُم :

أبْلِغْ أبَا ذُبّانَ مَخْلُوعَ الرَّسَنْ ******** أنْ قَدْ مَضَتْ بَيعَتُنَا لابنِ الحسَنْ
ابن الرّسول المصطَفَى والمؤتَمَن ***** مِنْ خَـيرِ فِتيانِ قُريشٍ وَيَمَـنْ
والحجّـةُ القَـائمُ فِي هَذَا الزّمـنْ

معركَة دير الجَماجِم ، ومُطاردَة الإمام الحسن بن الحسن (ع) :

نعم ! ومن هُنا بدأ إمامنا الحسن بن الحسن بعد توفّر النّاصر والمُعين ، بدأ الاستعداد والتّأهب للخروج إلى ابن الأشعث ومَن مَعه ، وكانَ الفقهاء في ذلك الوقت يحثّون ابن الأشعث لكييُظهرَ اسم الإمام الرّضا الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب (ع) ، يُظهرَه على منابر المساجِد ، فأظهرَه ابن الأشعَث جُمُعة ، فلمّا كانت الجُمعة الثّانية أسقطَ اسمه ولم يَذكُره ، كلّ هذا والإمام الحسن في طريقِه إليهِم ، وفي تلك الأثناء وقَعَت الملحمَة الكُبرى بينَ جيش ابن الأشعث وجيش الحجّاج ، في مكان يُقال له (الجَماجم) يَبعد عدّة فراسخ عن الكوفة ، وكانَ كثيرُ جيش ابن الأشعث يُقاتلونَ تحتَ رايَة الإمام الحسن المثنّى (ع) وهُو غائب لم يَصِلهُم بَعد ، إلاّ ما كانَ من ابن الأشعث ، نعني إسقاطَهُ اسم الإمام الحسن من الخطبة ، وهُناك استبسل أصحاب الإمام (ع) أيّما استبسال ، ولكنّ النصر مع ذلك لم يَكُن حليفَهم ، فانهزمَ ابن الأشعث ومَن معه ولحقوا بفارس ثمّ سجستان ، وقُتِلَ عدد كبيرٌ من الفقهاء في هذه المعركة ، حتّى سُميّت بمعركة الفقهاء ، وتُسمّى بمعركة دير الجماجم، نعم ! وهذه الوقعة حصلَت والإمام الحسن (ع) في طريقهِ إليهِم ، فلمّا علِمَت الخلافة الأمويّة بدور الحَسَن بن الحسَن (ع) في هذه الثّورة ، وهُو (ع) لمّا عَلِمَ باندلاع الحرب في الكوفة ، وهزيمة أصحابه ، ونَشاط العيون الأموية في القبض عليه ، تَوارَى الإمام الرّضا عن الأنظار ، فالتحقَ بالحجاز ، ولم يتمكّن منه عبدالملك بن مروان حتّى تُوفّي سنة 86هـ ، وجاء بعدَه ابنه الوليد بن عبدالملك الذي اجتهدَ اجتهاداً كبيراً في مُطاردَة الحسن بن الحسن (ع) بُغية القبض عليه .

الإمام الحَسن بن الحسن ، الإمام العَابِد (ع) :

قال الإمام نجم آل الرّسول وفَخرُهم القاسم بن إبراهيم بن إسماعيل بن إبراهيم بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب (ع) (169-246هـ) : بَلَغَنَا أنّ مُوسى النّبي، وإدريس عَليهِمَا السّلام، دَعَوا بِهَذِه الأربعين اسماً، وأنّ رَسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كَانَ يَدعو بِهَا، وأنّ الحسَن بن الحسَن طَلَبَهُ الحجّاج بن يوسف فَدَعَا بِهَذِه الأسمَاء فَصُرِف عنه :

((سُبْحَانَكَ يَا الله ، يَا ربَّ كُلّ شَيءٍ وَوارِثُه، يَا الله الإلهُ الرّفيعُ جَلاله، يَا الله المحمُودُ فِي كُلّ شَيءٍ فِعَالُه، يَا الله يَا رَحمَنُ كُلّ شَيء وَرَاحِمُه، يَا الله يَا حيّ حِينَ لاحَيّ فِي دَيمُومِية مُلكِه وَبَقَائه، يَا الله يَا قَيّوم لايَعزُبُ عَنهُ شَيء عِلمه ويؤوده، يَا الله يَا وَاحدُ يَا أولُ كلّ شيءٍ وآخِره، يَا الله يا دَايم بَغير زَوال ولافَناء لملكِه، يَا الله يَا صَمَد فِي غَير شبه ولاشيء كمثله، يَا الله يَاوِتر فَلا شَيء كُفوه ولا مُداني لِوَصفِه، يَا الله يا كَبيرُ أنتَ الذي لاتَهتدِي كلّ القلوبِ لِعَظَمَتِه، يَا الله يا بَاريء كلّ شَيء بِلا مِثال خَلا مِنْ غَيرِه، يَا الله يَا كَافي الوَاسع لما خلق مِن عَطايا فَضله، يَا الله يَا نَقي مِن كلّ جَور لَمْ يرضه ولم يخالطه فِعاله، يَا الله يا حَنّان أنتَ الذي وَسِعَت كلّ شيء رَحمَته، يَا الله يا مَنّان ذَا الإحسَان قَد عَمّ كلّ شيء مِنّته، يَا الله يَا دَيّان العِباد وَكلّ شَيء يَقومُ خَاضِعَاً لِرَهْبَتِه، يَا الله يا خَالِق مَنْ فِي السّماوت وَمَن فِي الأرض وكلّ شَيء إليه مَعاده، يَا الله يَا تَام فَلا تِصفُ الألسُنُ كلّ جَلال مُلكه وَعزه، يَا الله يا مُبتَدئ البَدائع لَم يَبتَغ فِي إنشَائها عَوناً مِنْ خَلقه،يَا الله يَا عَلاّم الغُيوب لايؤودهُ شَيء من حفظه، يَا الله يا مُعيد مَا أفنى إذا بَرَزَت الخَلائق لِدَعوَته مِن مَخَافته، يَا الله يا حَكيمُ ذَا الأنَاة فَلا شيء يُعَادِله، يَا الله يا جَميلُ الفِعَال ذَا المنّ عَلى جَمِيعِ خَلقِه بِلُطفِه، يَا الله يا عزيز المنيع الغَالب على أمرِه فَلا شيء يُعادِله، يَا الله المتعَال القَريبُ فِي عُلو ارتفَاعِه، يَا الله يا جَبّار الملك عَلى كلّ شيء بِقهر عزيز سُلطَانه، يَا الله يا نُور كلّ شيء أنتَ الذي انْفَلَقَت الظّلمات بِنورِه، يَا الله يَا قُدّوس الظَاهر مِن كل شيء فَلا شيء يُعادِله، يَا الله يَاقريب دُونَ كلّ شيء قربه، يَا الله يَا عَليّ الشّامخ فوق كل شيء عُلوه وارتفَاعه، يَا الله يا جَليل المتكبّر عَلى كل شيء والعَدل والصّدق أمره، يَا الله يا حَمِيد فَلا تَبلغ الأوهَام كلّ شأنِه ومجدِه، يَا الله يا بَديع البَدائع ومُعيدُها بَعدَ فَنائِهَا بِعَائدَته، يَا الله يا عَظيم ذَا الثّنَا الفَاخِر وَالعِزّ والكِبريَاء فَلا يَذلّ عزه، يَا الله يَاكَريمُ أنتَ الذي مَلأ كلّ شيء عَدله، يَا الله يا عجيب كلّ آلائه وثَنَائه، يَا الله يا خَالق الخَلق وَمُبتَدعه وَمغني الخَلق وَوارِثه، يَا الله يا رَحيم كُل صَريخٍ وَكلّ مَكروب وغِياثه ومعاده، يَا الله يَا قَاهر البَطش الشّديد الذي لا يُطاق انتقَامُه.

ثمّ يَدعو بِهَذَا الدّعاء: اللّهُمّ إنّي أسْألُكَ مَسْألَةَ المسكِينِ المُستَكِين، وأبْتَغِي إليكَ ابتغَاء التَائبِ الفَقَير، وأتَضَرّعُ إليكَ تَضَرُّعَ الضّرِيرِ ، وأبْتَهِلُ إليكَ ابتهَالَ المُذنِب الذّليل، أسْأَلُكَ مَسْألَةَ مَنْ خَضَعَتْ لَكَ رَقَبَتُه، وَرَغِمَت لَكَ أنُفه، وَعَفرَ وَجهه، وسَقَطَتْ لَكَ نَاصِيَته، وانْهَمَلَت لَكَ دُمُوعُه، وَفَاضَتْ إليكَ عَبْرَتُه، وأَغْرَقَتهُ خَطَايَاه، وَفَضَحَتهُ عَبَرَاتُه، وَظَلّتْ عَنهُ حِيلَته، وَذَهَبَتْ عَنه قُوّتُه، وَانقْطَعَت عَنه حُجّته، وأسْلَمَتْه ذُنوبه، أسْألُكُ الهُدَى وأفْضَل الشُكر فِي النّعمَاء، وأحسنَ الذّكْرِ فِي الغَفْلَة، وأشَدّ التَذَرّع فِي الرّغبَة، وأبْكَى العُيون فِي الخَشية)) . اهـ [من كتاب الذّكر للحافظ محمد بن منصور المرادي رحمه الله تعالى] .

ثَنَاء الأئمّة والعُلماء على الإمام الرّضا الحسن بن الحسن (ع) :

* قال الإمام المنصور بالله عبدالله بن حمزة (ع) : ((هُوَ الذي أجمَعَ عليهِ آلُ الحسن وآلُ الحسين في ولاية صَدَقات علي (ع) ، ولَم يَجتمعوا على غيرِه ، ولَهُ فضلٌ كبير ، وعِلمٌ شَهير)) [من كتابِه الشّافي] .

* قال العلاّمة عبدالله بن الإمام الهادي يحيى بن الحسن القاسمي : ((كَانَ مَشهُورَاً بِالفَضْل)) [ من كتابه الجداول ] .

* قال العلاّمة الشّهيد حميد بن أحمد المحلي : ((كانَ (ع) مَشهوراً فَضلُه ، ظاهراً نُبلُه ، يَحكِي في أفعَالِه مَنَاسِبَهُ العَالِية)) [من كتابه الحَدائق الورديّة في مَناقب أئمّة الزيدية] .

* قال العلاّمة محمد بن علي الزّحيف : ((كانَ مَشهورَاً فَضلُه، ظَاهراً نُبلُه، وَكَانَ لَهُ مَواقِف عَظيمَة بَين يَدي عمّه الحسين بن علي –عليه السلام- فِي كربلاء، وكَان فَارِساً، له يومئذٍ عشرونَ سَنة، وقَتلَ يَومئذٍ من جنودِ الضّلال عِدّة)) [من كتابه مآثر الأبرار ج1] .

* قال العلاّمة الحسين بن ناصر الشّرفي : ((الإمِامُ الكَبير الحسَن بن الحسن بن علي عليه السلام ، كَانَ رَجُلاً جَليلاً ، مَهِيباً ، عَابِداً ، فَاضِلاً ، رَئيسَاً ، وَرِعَاً زَاهِداً)) [من كتابه مطمح الآمال ]

زواجُ الإمام الحسن بن الحسن ، وذِكرُ أولادِهِ (ع) :

سبقَ وأن أشرنا إشارةً سريعَة إلى أنّ إمامنا الحسن بن الحسن (ع) ، تزوّج بابنة عمّه فاطمة بنت الحسين (ع) ، وحاصلُ هذا الزواج ، أنّ الإمام الحسن قصدَ عمّه الحسين وطلبَ منه أن يُزوّجَه إحدى ابنتيه ، يعني سُكينة وفاطمة ، فقال له عمّه الحسين : اختَر أحبَّهما إليك . فاستحيا الحسن (ع) من عمّه ، ولا يُحِر جَواباً ، فقال الحسين (ع) : قَد اخْتَرتُ لكَ ابنتي فاطمَة ، فَهِيَ أكثَرُهما شَبهاً بأمّي فاطمة بنت رسول الله (ص) ، فزوّجه إيّاها . وقد كان يُقال بما معناه ، أنّ امرأةً تُختَارُ على سُكينة ، لُمنطقعةُ الجمال ، لأنّ سُكينة كانت جَميلة .
نعم ! تزوّج الإمام الحسن بفاطمة بنت الحسين ، وأنجبَت منه عبدالله ، وإبراهيم ، والحسن (المثلّث) ، وزينب ، وأم كلثوم ، ويُحكى أنّ جدّه لأمّه ، منظور بن زيَّان الفزاري ، جاءهُ وقالَ له :لعلَّكَ أحْدَثتَ أهلاً ؟ قال : نعَم ، تَزوجّتُ بنت عمّي الحسين بن علي . فقال : بِئسَ ما صَنَعت ، أمَا عَلِمتَ أنّ الأرحامَ إذا التقَت أضوَت؟! ، كانَ يَنبغي لكَ أن تَتَزوّجَ في العَرب . قال : فإنّ الله قَد رزَقَني منها ولداً ، قال : فَأرِنيه . قال : فأخرجَ إليه عبدالله بن الحسن ، فَسُرَّ به وفَرِح ، وقال : أَنْجَبتَ والله ، هذا الليثُ عادٍ ومَعدوٌّ عليه . قال : فإنّ الله رَزَقني منها ولداً آخر ، قال : فأرِنيه . فأخرجَ الحسن بن الحسن بن الحسن ، فَسُرّ به ، وقال : أنْجَبتَ والله ، وهُوَ دونَ الأوّل . قال : فإنّ الله قد رَزَقَني منها ثالثاً . قال : فَأرنيه . فأراهُ إبراهيم بن الحسن بن الحسن ، فقال : لا تَعُدْ إليهَا بعدَ هذا .

وللإمام الحسن بن الحسن (ع) ، جعفر ، وداود ، وفاطمَة ، ومُليكَة ، وأم القاسم ، أمّهم أم ولد .

وَفَاة الإمام الحسن بن الحسن (ع) :

تُشير المصادر إلى أنّ وفاة الحسن بن الحسن (ع) ، في العام السادس والتسعين ، وقيل السّابع ، وقيل الثّامن ، والسّلطة الأمويّة هي المُتّهمة بسمّه (ع) ، والرّاجح أن يكون (ع) قد مات مسموماً على يد الخليفة الأموي الوليد بن عبدالملك ، وذلك في عام 96هـ، وعُمره خمسٌ وخمسونَ عامَاً ، ودُفِنَ الإمام الحسن في البقيع بالمدنية المنورة ، ولا تحديد بالدّقة لمكان قَبره (ع) ،وقد يُشار إليه بالقُرب من قبر أبيه الحسن بن علي (ع)، ولا صحّة لكونه (ع) تُوفّي وعُمره خمسٌ أو ستُ أو ثمانٌ وثلاون عاماً ، فتكون سنة وفاته (ع) في السنة التاسعة والّسبعين للهجرة على أكثر تقدير ، وهذا يَجعلُهُ غيرُ مُعاصر للوليد بن عبدالملك وهُو المُتهم بِسَمّه بإجماع المصادر الذي تكلّمت عن هذا ، إذ أنّ ولايَة الوليد كانت في الفترة ما بين (86-96هـ) ، ثمّ إنّه يُعترضُ على هذا القول ، بإثبات المَصادر أنّ وقعة دير الجماجم لم تَحدُث إلاّ عام 82 أو 83 هـ ، فيكونُ الحسن بن الحسن قد تُوفّيَ حينَها ، وهذا وَهم ، والصحيح بإذن الله هُو مَا أثبتناه .

نعم ! حَزِنتَ فاطمة بنت الحسين على زوجها الحسن المثنّى (ع) ، أيّما حُزن ، فقد أُثِرَ أنّها ضربَت فُسطاطاً على قَبره (ع) ، أي بيتَاً من الشّعر ، ومَا بَرِحتهُ تَبكيه وتترّحمُ عليه ، فِرضوانُ الله عليه وعليها وعلى آبائهما ، وخيار أبنائهما ، وسلامٌ وصلاة على أشرف الأنبياء والمُرسلين ، وعلى آله الطّيبين الطّاهرين .

الأحد
12/7/1427هـ

المَصادِر :

– كتاب المصابيح ، لأبي العباس الحسني (ع) .
– كتاب الحدائق الورديّة في مناقب أئمّة الزيدية ، للشهيد حميد المحلي .
– كتاب مآثر الأبرار في تفصيل مُجملات الأخبار ، لمحمد بن علي الزحيف.
– كتاب الشافي ، للغمام المنصور بالله عبدالله بن حمزة .
– كتاب التحف شرح الزّلف ، للإمام مجدالدين بن محمد المؤيدي (ع) .
– كتاب الذِّكْر ، للحافظ محمد بن منصور المُرادي .
– كتاب مَطمح الآمال ، للعلاّمة الحسين بن ناصر الشّرفي .
– كتاب أخبَار فخ ويحيى بن عبدالله ، لأحمد بن سهل الرّازي .
– وغيرها .