أهلُ الَبيت في زمَن الإمام السجّاد -عليهم السّلام- . الكيان والاعتقاد الواحد والثورة في وجه الظلم لانصب ولا رفض
لا نصوص ولا خنوع
بقَلم الأستَاذ الكَاظم الزّيدي .
لتصفّح البحث بصيغَة (الفِلاش) ، ويُمكن التّحميل مِنه :
https://www.calameo.com/read/0061241572a6b560fc99a
للتحميل pdf على الميديا فاير:
https://www.mediafire.com/file/3dhmpp7blbn0cb8/%25D8%25A3%25D9%2587%25D9%2584_%25D8%25A7%25D9%2584%25D8%25A8%25D9%258A%25D8%25AA_%25D9%2581%25D9%258A_%25D8%25B2%25D9%2585%25D9%2586_%25D8%25A7%25D9%2584%25D8%25A5%25D9%2585%25D8%25A7%25D9%2585_%25D8%25A7%25D9%2584%25D8%25B3%25D8%25AC%25D8%25A7%25D8%25AF_%25D8%25B9%25D9%2584%25D9%258A%25D9%2587_%25D8%25A7%25D9%2584%25D8%25B3%25D9%2584%25D8%25A7%25D9%2585.pdf/file
_________________
سيرةٌ تستعرضُ ثوريّة الإمام السجّاد -عليه السلام- ، وكيف أنّ منهجَ سادات بني الحسن والحسين واحدٌ في الدّين ، ويطرقُ أنّه لا نصوص ولا خُنوع كما قد تُوهِمَ الرّافضَة من حَال أخيار ولد الحسين -عليهم السلام- في الابتعاد عن الثّورة على الظّالمين والجهاد في وجوههم ، وأنّهم يؤصّلون للانتظَار .
* ملاحظة : هذا المبحثُ جزءٌ من أجزاء سلسلَةِ (زادَ المُسافر أنيس الوحدَة والرّحلة في الطّريق إلى العترَة) .
في هذا المبحث سيكونُ تركيزٌ على جانبٍ من سيرة الإمام زين العابدين علي بن الحسين –عليهما السلام- ، واستعراضٌ لسيرة بني عُمومته وسادات العترة في زمانه معه ، والغرضُ من ذلك أن يقف المتزوّد والباحثُ على قراءةٍ غائبةٍ عن هذه الشخصيّة ، ثمّ الغرضُ إظهار علاقَة مجتمعيّةٍ بين سادات العترة –عليهم السلام- ، وسيقفُ على أنّه ليس يصحّ ما تُحاول الإماميّة –أو لا أقلّ مُتقدّموهم- به ، من أنّ الرجّل الذي يُحرّم الخروج بالسّيف ، أو الإمام البكّاء الذي يجتمعُ إليه النّاس يبكون ويرثونَ كربلاء ، فيستنبطون من هذا –بتكلّفٍ- ما يُشرعنُ لهم أفعالهم في الحسينيّات ، لقد كانت العِبرَة وطريقة الإمام السجّاد علي بن الحسين –عليهما السلام- أكبرُ وأعظمُ وأبلغ ، ولسنا نقولُ أنّه لم يكُن كثير الحُزن والبُكاء –عليه السّلام- فذلك مُتواترٌ عنه معناه ، إلاّ أنّ بُكاءٌ برسالةٍ ثوريّة جهاديّة علميّةٍ جسّدها في ابنه الإمام زيد بن علي –عليهما السلام- ، وبُكاءٌ برسالةٍ علميّةٍ صادعةٍ بالحق والأمر بالمعروف والنّهي عن المُنكر جسّدهَا في ابنه الإمام الباقر محمد بن علي –عليهما السلام- وفي سائر أبنائه ، بل لقد جسّدها الإمام السّجاد بنفسِه أمراً بالمعروف ونهياً عن المُنكر طاقته وجهده وإن لم يكُن بذلك بعنوان الدّعوة إلى نفسه ، لأنّ الأمر بالمعروف والنّهي عن المُنكر مراتبُ كما تعلمُ وتعرف وليسَ تنُال الإمامة إلاّ بنوعٍ مخصوصٍ يقومُ فيه الدّاعي في الأمّة يدعوها إلى منابذة الظّالمين ونُصرته والاستجابَة إليه والنّفير لإقامة سُلطان العدل وإقامة الحدود وتطبيق الأحكام كما مرّ معك في المبحث الأوّل من غايات الإمامة من قول أمير المؤمنين –عليه السلام- وغيره ، ثم سيأتي معكَ في القراءة احتمالَ أنّه قد قام ودعا –عليه السلام- ، لأنّ هذا المبحثٌ جزءٌ منه استقرائيّ تتبعيّ ، نستكشفُ معها ذلك الواقع من خلال استعراض جُملة من السّيرة لا يحبّ الكثير من الإمامية التطرّق إليها من شخصيّة الإمام السجّاد –عليه السلام- ، وإن كانَت بعض الأقلام مؤخّراً قد بدأت تكتُب في ذلك تُريدُ تصديرَ الإمام السجّاد –عليه السلام- بصورة الرجّل الثّوري ، وذلك فتابعٌ للنظرية الجديدة التي بدّل بها بعض الإمامية المُتأخّرين طريقَة القعود والانتظار إلى الثورة وتفعيل نظرية ولاية الفقيه بصلاحية أوسَع في الأمّة ، ثمّ إنّ هؤلاء الكتّاب إذا قد طالعتَ مصنّفاتهم وهُم يريدونَ تصدير أئمتهم التسعة على أنّهم مع الثّورة ، أو أنّهم صانعو ثوراتٍ في أزمانِهم تجدهم لا يستطيعون إثبات مُرادِهم من كُتبهم ومباحثِهم بطريقةٍ ذات إقناعٍ لمّا وجدوا أنّ أصولهم الروائية بل والعقائديّة وأقوال أسلافهم من الإمامية تضدّ الثّورة من كلّ وجهٍ ، وتضدّ الخروج على الظّلمة من كلّ طريقٍ ، بل يجدونَ روايات منع الخروج حتّى زمن القائم المنتظر الثاني عشر ، فيكون عند أغلب هؤلاء الكتّاب حالةٌ من الانفصام ، إذ لا مُستند يستندون عليه في تصوير أئمتهم على أنّهم أصحاب ثورة إلاّ بما سيعيدُ أئمّتهم داخل القول والعقيدة والبيت الزيدي ، أو يلجؤون إلى استخراج ثورية أئمتهم من خلال أحداثٍ يتكلّفونَها ليخرجوُا برمزيّةِ ثوريّة في أئمّتهم .
وعندنا أنّ أخيار ولد الحسين أئمّة الإمامية –عليهم السلام- كانوا أصحاب رسالةٍ بعيدة عن التأصيل للانتظار ، آمرةٍ بالمعروف وناهيةٍ عن المُنكر بنُصرة بني عُمومتهم أو القيام جهدهم بطرقِ الأمر بالمعروف والنهي عن المُنكر بالكلمَة أو حتّى الفعل ، وهذا ما سيقفُ عليه الناظر مِن هذا المبحث فيما يخصّ الإمام السّجاد –عليه السلام- ، وفي المباحث القادمة فيما يخصّ سائر ولد الحسين –عليهم السلام- .
– [من تراث الإمامية يصفُ حال الإمام السجّاد –عليه السلام- بالصّمت ولزوم المنزل حتى قيام المهدي] :
يروي صفة السّكون والصّمت ولزوم المنزل والانقطاع للعبادة حتّى الموت الإماميةُ من حال الإمام زين العابدين –عليه السلام- وأنّه مأمورٌ بذلك من الله تعالى ، فيروي الكليني ، بإسنادٍ صحيحٍ عنده ، أنّ كتاباً أنزلَه الله من السمّاء وصيّةً لرسول الله –صلوات الله عليه وعليه وعلى آله- عليه خواتيم ، يدفع كلّ إمامٍ الكتاب للذي بعده ، وكلّ إمام يفضّ خاتمَه ، والرواية عن أبي عبدالله –عليه السلام- ، منها : ((…، ثم دفَعَه [أي الإمام الحسين] إلى عَلي بن الحسين -عليهما السلام- ففكّ خَاتماً فَوجَدَ فيه : أنْ أطْرِق ، واصْمِت ، والزَم مَنزِلَك ، واعبُد رَبّك ، حتّى يَأتيك اليَقين، ففعل ..الخبر))[1] ، وقد مرّ معك قول الشيخ المفيد يصف حال أئمتهم قبل الغيبة ومنهم الإمام السجّاد : ((انّ مُلوك الزّمَان إذ ذاك كانوا يَعرفون من رأي الأئمة عليهم السلام التقيّة، وَتحريم الخُروج بالسيف على الولاة، وعَيبُ مَنْ فَعل ذلك مِنْ بَني عَمّهم ولومِهم عليه، وأنّه لا يجوز عندهم تجريد السيف حتى تركُد الشّمس عِند زوال، ويُسمع نداءٌ منِ السماء باسم رجل بعينه، ويُخسف بالبيداء، ويقوم آخر أئمّة الحق بالسيف ليزيلَ دولة الباطل))[2] اهـ .
ولعمري أنّ هذه ليسَت بصفَة أهل القرآن من حكاية الإمامية عن أحدٍ من عامة المُسلمين ، فكيفَ وهم يتكلّمون عن الإمام زين العابدين علي بن الحسين –عليهما السلام- ، والله المستعان ، وسيقف المتزوّد على جُملة من السّيرة تردّ على ذلك الحال الذي يصفُه الإمامية به إذا ما قد استثنينا مُتأخّروهم الذين خالفوا طريقة الإمامية المتقدّمين .
– [ الإمام السجّاد علي بن الحسين –عليهما السلام- المُجاهدُ في كَربلاء ] :
استشهدَ الإمامُ الحسين السّبط –عليه السلام- سنة (61هـ) ، وقد شاركَ معه رجالٌ من العترة وسائر العلويين وبني هاشم ورجالٌ من شيعتِهم الصّابرين ، فممّن شاركَ علي بن الحسين الأكبر ، وليس هُو الإمام السجّاد بل أخوهُ ، فالإمام الحسين –عليه السلام- قد أعقبَ ولدين كلاهما اسمعه عليّ : عليّ بن الحسين الأكبر الشّهيدُ في كربلاء ، أوّل قتيلٍ في المعركة ، وأمّه ليلى الثقفيّة ، وكان يشدّ على النّاس في المعركَة قائلاً:
أنا عَـــــــلِيّ بن حُســــــَيْن بن عــــــلي ** نحــــــنُ وربّ الــــــبَيت أولى بالنبي
تالله لا يحكُم فِينا ابن الدَّعِي[3]
ثمّ المصادرُ تحكي أن الإمام زين العابدين علي بن الحسين –عليه السلام- لم يُشارك في المعركَة وأنّه كان في فُسطاطٍ مريضاً ، إلاّ أنّ رواية الإمام المرشد بالله يحيى بن الحسين الشّجري –عليه السلام- ، بإسناده ، صريحة في مشاركته القِتال وأنّه كان مرتثّاً وقت المعركَة ، وهذا فلا يُقال إلاّ في حقّ من شاركَ في الحرب وجُرِحَ واستُنقِذ ، فجاء في الرواية : ((وكانَ عَلي بن الحُسين -عليه السلام- عَليلاً وارتثّ يَومئذ وقد حَضر بَعض القِتال، فدفعَ الله عنه، وأُخِذَ مَعَ النّسَاء))[4] اهـ ، وقد يُجمَعَ بين الأقوال أنّه شاركَ في حال مرضٍ أو أنّه مرضِ سائر وقت المعركَة فمكث في الفُسطاط ، أو نحو ذلك . ثمّ إنّ الإمام السجّاد –عليه السلام- أخذَ أسيراً ، وأخذَت النّساء أيضاً إلى عُبيدالله بن زياد ، ثمّ إلى يزيد بن معاوية .
إنّ هذه النفسيّة التي قد مارسَت الجِهاد في سبيل الله تعالى ومُباشرة الأمر بالمعروف والنّهي عن المُنكر مع والدهَا الإمام السّبط الحسين بن علي –عليهما السلام- ، لا شكّ ليسَت نفسيّةً ضعيفةً في ذاتها ، ولا شكّ ليسَت نفسيّةً لا تعتقدُ أنّ عليها تكليفٌ تجاه الأمّة في الأمر بالمعروف والنّهي عن المُنكر سواءً كانَت بدعوة الإمامَة تقومُ بها ، أو مُناصرةً للإمام القائم في زمانِها ، بل كانت نفسيّةً تستحضرُ آيات الأمر بالمعروف والنّهي عن المُنكر في وجه الظّالمين ، ثمّ إن استحضَار النّاظر هذا الجانب من شخصيّة الإمام المُجاهدِ السجّاد علي بن الحسين –عليهما السلام- ستجعلُه صاحب أفق واسعٍ وهُو يستقرئُ سيرتَه بعد كربلاء استقراءً صحيحاً وجهه من روُحِ ذلك الجهاد والأمر بالمعروف والنّهي عن المُنكر ، لا أنّه وجهه ما حكاه الشيخ المفيد ولا ما رواه الكُليني من الإمامية ، ولا ما أصلّته الإمامية من عقيدة الانتظار حتّى العقود المتأخّرَة .
– [ الإمام الرّضا الحسن بن الحسن –عليهما السلام- المُجاهدُ في كَربلاء] :
كانَ الإمام الرّضا الحسن بن الحسن –عليهما السّلام- ممّن شاركَ وأبلى بلاءً حسناً في جهاد بني أميّة مع عمّه الإمام الحسين السّبط –عليه السّلام- ، وكان الإمامُ قبل المعركَة بسنةٍ أو أقلّ أو سنتين قد عقدَ له على ابنته فاطمة بنت الحسين –عليها السلام- ، وهي فاطمة الصّغرى ، ، روى أبو مِخنف : ((أنّ الحسن بن الحسَن بن علي بن أبي طالب -عليهم السلام- قاتلَ بين يدي عَمّه الحُسين -عليه السلام- وهُو فَارسٌ، ولَه يَومئذ عشرون سنة، وقيل: تسع عشرة سنَة، وأصَابته ثمان عَشرة جِرَاحة حتى ارْتَثّ ووقع في وسط القتلى، فحمَله خَاله أسماء بن خارجة الفُزاري، وردَّه إلى الكوفَة))[5] اهـ ، وذلك فَعلَه الفُزاري استبقاً لفعلِ جنود عُبيدالله بن زياد أخذ أهل الإمام والنساء إلى يزيد بن معاوية ، فقد استنقذَهُ من بين أيديهم وأسرِهم ، ومكث الإمام الحسن بن الحسن –عليهما السلام- ثلاثة أشهر يُعالجه ويُداويه أخواله من جراحاته .
– [ الإمام الأبلج زيد بن الحسن –عليهما السلام- المُجاهدُ في كَربلاء] :
المشهورُ بين يديّ النّسابة أنّ زيد بن الحسن لم يُشارك في كربلاء ، وذلك سيكون لعلّةٍ منعته ، فذلك اللائقُ حمل آل الرّسول عليه إذا كانَ الأمرُ غير مُفسّرٍ بما يُفيد اطمئناناً ، إلاّ أنّ ذلك مُعارضٌ بما رواهُ أبو الفرج الأصفهاني من أنّ زيد بن الحسن كان من جُملة الأسرى الذين أخذَهم جُنود عبيدالله بن زياد ، فجاء في روايته بعد ذكره مقتل الإمام الحسين –عليه السلام- : ((وحُمِلَ أهلُه أسرَى ، وفِيهم، عمر [عمرو] ، وزَيد، والحَسن بنو الحسن بن علي بن أبي طالب -عليهم السلام- ))[6] اهـ . فهل أنّه استُنقِذَ كما استُنقذَ الحسن بن الحسن حال الأسرِ ولم يُقد إلى الشّام إلى مُعاوية بن أبي سفيان ، أم أنّ قيدَ إلى الشّام ، ذلك لم تفصّله السّيرَة .
– [ الإمام السجّاد علي بن الحسين –عليهما السلام- قلبٌ مُجتمعٌ أمام عُبيدالله بن زياد وعقيدة العدل الإلهي في قبال الجبر الأمويّ] :
لقد كانَ الإمام السجّاد –عليه السّلام- مدرسةً في أصعب المواقف التي تذلّ لأجلها ومعها كثيرٌ من الهامات ، فيروي أبو مِخنف قصّة دخول الإمام علي بن الحسين –عليهما السلام- على عُبيدالله بن زياد بعد المعركة وقد كان بلغَ عُبيدالله بن زياد أنّ علي بن الحسين الأكبر قد قُتل في المعركة ، فجاء في الرواية بعد دخولهم عليه : ((فقال له: مَا اسمك ؟ قال : أنا عَلي بن الحسين، قال: أو لم يَقتُل الله علي بن الحسين؟. فسكَت . فَقال له ابن زياد: مَالك لا تتكلم . قال: قَد كَان لي أخٌ يُقال له أيضاً عَليٌّ ؛ فقتلَه النّاس . قَال: إنّ الله قَد قتلَه . قال: فسكَت عليّ . فقال لَه: مَالك لا تتكلم؟. قَال: ((اَللّٰهُ يَتَوَفَّى اَلْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهٰا)) ، ((وَ مٰا كٰانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلاّٰ بِإِذْنِ اَللّٰهِ كِتٰاباً مُؤَجَّلاً)) . قال: أنتَ والله مِنهم، وَيحك انظرُوا هل أدرَك ؟ والله إنّي لأحسبهُ رَجُلاً . قَال: فكَشفَ عَنه مَرى [مروان] بن مُعاذ الأحمري ، فقال: نعم ، قَد أدْرَك . فقال: اقتُله، فقال : عَلي بن الحسين : مَن تُوكِّلُ بهؤلاء النِّسوة؟!. وتَعلّقت به زَينب عَمّته فقالت: يابن زياد حَسبُك منّا ، أمَا رُويتَ مِنْ دِمَائنا ؟!. وهَل أبقيتَ مِنّا أحَداً ؟. قَال: فَاعتنقَته ، فقالت : أسْألُك بالله إن كُنت مُؤمِناً إن قَتلتَهُ لمَا قَتلتَني مَعه . قَال: وناداه عليٌّ ، فقال: يَابن زياد إن كَانت بَينك وَبينَهم قَرابَة ، فَابعث مَعهنّ رَجُلاً تقيّاً يصحبهنّ بصُحبَة الإسلام . قَال: فَنظر إليها سَاعَة، ثمّ نظر إلى القوم ، فقال: عجبَاً للرَّحِم، والله إنّي لأظنّها وَدَّتْ لو أنّي قَتلتُه أنّي قَتلتُهَا مَعَه، دَعُوا الغُلام، انطلق مَع نِسَائك))[7] اهـ .
لقد كانَ هذا كلّه وعمر الإمام السجّاد يتراوح بين الثانية إلى الثالثة والعشرين ؛ يصنعُ فيه خطر تولّي الظّلمة على المُسلمِين ، ويزيدُه إصراراً على أن يسعَ جهده لانتشال الأمّة من براث الأمويين ، فإنّه ما اغترّ واستقامَ لهم عامّة المُسلمين إلاّ بتدجين عُلماء السّوء لهم ، فكانَ –عليه السلام- بعد ذلك مشعلاً يُنيرُ سماء العدل بالعِلم وببعثِ حياة الأمر بالمعروف والنّهي عن المُنكر في نفوس الأمّة جهدَه وطاقَته ، حتّى خرجَ زيدٌ الشّهيد متوقّداً متبرّماً من ذلك الواقع الأمويّ يحملُ هُموم أبيه ويحملُ مظلوميّة مُجتمعِه .
إنّ الإمام السجّاد شخصيّةٌ وإن كانت بكّاءةً في جانبٍ فإنها شخصيّةٌ قويةٌ في جانب الله تعالى من جانب آخَر ، روحها الأمر بالمعروف والنّهي عن المُنكر ، فمن الرّواية السابقة أنت تقفُ على ذلك في مثل ذلك الموقف وتلك الحادثة ، ثمّ في رواية المفيد الإماميّ جاء فيها : ((فغضبَ ابنُ زيادٍ وقالَ : وَبكَ جُرأةُ لجوابي ، وفيكَ بقيّةٌ للرّدَ علي؟!. اذهبوا به فَاضربوا عُنقَه))[8]اهـ ، هذه الشخصيّة هي مما تعتقدُه الزيدية في الإمام السجّاد –عليه السلام- وذريّته ، ليست تلك الشخصيّة التي حكاها الشيخ المفيد قريباً من تحريم الخروج على الظّلمَة ، والانقطاع للعبادة ، وأمثال ذلك مما وقفت عليه رواية الخواتيم المُغلقة عن الكليني يلزمُه بالسّكوت والصّمت والتزامِ منزلِه ، فهذا كلّه يُخالف واقعَ الإمام علي بن الحسين –عليه السلام- ، وهُو إن لم يقُم ولم يدعُ فإنّه مع ذلك آمرٌ بالمعروف ناهٍ عن المُنكر مُباينٌ للظّلمَة بمراتب أقلّ من الدّعوة يهيّئ ويصنعُ أمّة تُجيب دُعاة العترة –كما قد وقفتَ عليه من أصول العترة وطريقتهم في السيرة في المبحث الأوّل القريب- ، وليست تلك صناعةٌ وقتها آخر الزّمان لإجابة المهدي الغائب ، بل ذلك يُخاطبُ ذلك الزّمان ويُخاطبُ زمانَه القريب ؛ لأنّه يعلمُ –عليه السلام- أنّه لا بدّ من أئمّة دُعاة يقومون في الأمّة ، وكذلك فعل ابن عمّه الإمام الحسن بن الحسن –عليهما السلام- ، وكذلك فعل ابنه الإمام زيد بن علي –عليهما السلام- ، وسنأتي على شواهد من شخصيّة الإمام زيد بن العابدين –عليه السلام- تؤيّد ما قلناه ، قريباً –إن شاء الله تعالى- .
-[ الإمام السجّاد علي بن الحسين –عليهما السلام- قلبٌ مُجتمعٌ أمام يزيد بن معاوية وعلى مِنبر أهل الشّام] :
مضَى جلاوزةُ عُبيدالله بن زياد بالإمام علي بن الحسين وأهل بيته ومن معهم من النساء من الكوفة إلى الشّام ، ويروي الخوارزميّ خِطبَة الإمام علي بن الحسين –عليهما السلام- أمام يزيد بن معاوية وأعوانه ، قال : ((و روي: أنّ يزيد أمر بمنبر و خطيب، ليذكر للناس مساوئ للحسين و أبيه علي -عليهما السّلام- ، فصعد الخطيب المنبر، فحمد اللّه و أثنى عليه، و أكثر الوقيعة في علي و الحسين، و أطنب في تقريظ معاوية و يزيد، فصاح به علي بن الحسين: ((ويلك، أيّها الخَاطِب! اشتريت رضا المخلوق بسخط الخالق؟ فتبوأ مقعدك من النار)) ، ثم قال: ((يا يزيد! ائذن لي حتى أصعد هذه الأعواد فأتكلم بكلمات فيهن للّه رضا، و لهؤلاء الجالسين أجر و ثواب)) ، فأبى يزيد، فقال الناس: يا أمير المؤمنين! ائذن له ليصعد، فلعلّنا نسمع منه شيئا، فقال لهم: إن صعد المنبر هذا لم ينزل إلاّ بفضيحتي و فضيحة آل أبي سفيان، فقالوا: و ما قدر ما يحسن هذا؟ فقال: إنّه من أهل بيت قد زقّوا العلم زقا، و لم يزالوا به حتى أذن له بالصعود. فصعد المنبر، فحمد اللّه و أثنى عليه، ثم خطب خطبة أبكى منها العيون؛ و أوجل منها القلوب، فقال فيها: ((أيها الناس! أُعْطِينا سِتّاً، و فُضِّلنا بِسَبْعٍ: أعطِينا العِلم، و الحلم، و السماحة، و الفصاحة، و الشجاعة، و المحبة في قلوب المؤمنين، و فضلنا بأنّ منا النبي المختار محمدا صلّى اللّه عليه و آله، و منا الصديق، و منا الطيار، و منا أسد اللّه و أسد الرسول، و منا سيدة نساء العالمين فاطمة البتول، و منا سبطا هذه الامة، و سيدا شباب أهل الجنّة، فمن عرفني فقد عرفني، و من لم يعرفني أنبأته بحسبي و نسبي: أنا ابن مكة و منى، أنا ابن زمزم و الصفا، ….، قال: و لم يزل، يقول: ((أنا أنا)) حتى ضجّ الناس بالبكاء و النحيب، و خشي يزيد أن تكون فتنة، فأمر المؤذن: أن يؤذن، فقطع عليه الكلام و سكت، فلما قال المؤذن: اللّه أكبر! قال عليّ بن الحسين: ((كَبّرتَ كَبيراً لا يُقاس، و لا يُدرك بالحَواس، لا شيء أكبَر من اللّه» ، فلمّا قَال: أشهد أن لا إله إلاّ اللّه! قال علي: ((شهد بها شعري و بشري، و لحمي و دمي. و مخي و عظمي))، فلما قال: أشهد أنّ محمدا رسول اللّه! التفت عليّ مِنْ أعلى المنبر إلى يزيد، و قال: ((يا يزيد! محمّدٌ هَذا جَدّي أم جَدُّك؟ فإن زعمت أنّه جَدّك فَقد كَذبت، و إن قلت: إنّه جَدّي، فِلمَ قَتلتَ عِترَته))[9] اهـ .
هذا الإمام زين العابدِين –عليه السّلام- ليسَ هُو من الأئمّة الذين حكاهم مشائخ الإمامية الكبار المفيد والمرتضى والطوسي ، وليس هُو مصداقٌ لمن رواهُ الكليني بمّا لم تكُن صفته السّكوت والصّمتُ ولزوم المَنزل ، هي شخصيّةٌ لا تصبرُ على الظّلم ، ولا تُوادعُ سلاطين الجور ، ليست هي الشخصيّة التي قال عنها الشيخ المفيد –وهي مفاد تراث الإمامية عن أئمتهم:- (( فلما ظهر ذلك من السلف من آباء صاحب الزمان -عليهم السلام- ، وتحقق عند سُلُطان كلّ زمان وملك كل أوان، علموا من الأئمة الماضين عليهم السلام أنهم لا يَتديّنون بالقِيام بالسّيف، ولا يرَون الدّعاء إلى أنفسِهم، وأنّهم ملتزمون بالتقية، وكفّ اليَد، وَحفظ اللسان، والتوفّر عَلى العِبادات، والانقطَاع إلى الله بالأعمَال الصّالحات. لمّا عَرف الظالمون مِن الأئمة هنه الحالات: أمّنوهم على أنفسهم، مُطمئنين بذلك إلى مَا يدبرونه من شؤون أنفسِهم، ويُحقّقوه مِن دِياناتهم، وكفّهم ذلك عن الظهور والانتشار، واستغنوا به عن الغيبة والاستتار))[10] اهـ ، وسيأتي على ردّ هذا شواهد أخرى ، والذي تتنبّه له وأنت المتزوّد أنّ تلك التنظيرات التي يعتقدها الإمامية في أئمتهم من واقع تلك الروايات المُختلقة ومنها رواية الخواتيم من كتاب الوصيّة السّماوي ، فإنّه مُخالفة على واقع أئمّتهم ، ثم يتنبّه المتزوّد إلى وجه قولِنا أنّنا لا نعتقدُ من واقع أخيار ولد الحسين –عليهم السلام- أنّهم على قول الإمامية في تنظيرهم وحكايتهم ، بل إنّهم كانوا آمرين بالمعروف وناهين عن المُنكر بمراتب الأمر والنّهي ، وإن يدعوا إلى أنفسهم ، إلاّ أنّهم على مراتب بيّنة جليّة واضح أثرهَا في الأمّة ، وتعود على أبنائهم بأثرٍ هُو الدّعوة ، وعلى مُجتمعاتهم بالنّصرة للدّعاة من سادات بني الحسن والحسين –عليهم السّلام- .
– [الإمام السجّاد علي بن الحسين –عليهما السلام- وأحداث كربلاء أمام عينيه ، وشفاء الصّدور بمقتل قتلة كربلاء ] :
إنّ الإمام السجّاد –عليه السلام- رغم كثرَة بُكائه على أهلِه ، فإنّه بُكاءٌ كانَ وجهه التألّم لحالِهم ولمصرِعهم وإنّما همه رضوان الله ، ثمّ تألّمٌ لحالِ الأمّة وقد أصبحَت كياناً واحداً في وجه أهل بيت نبيّهم ، في وجه العدالَة مع الظّلمَة ، كلّ ذلك وهُو أمامَ الإمام علي بن الحسين –عليه السلام- فإنّه يقضّ مضجعه ويرفعُ نومَه ، حتّى قال –عليه السلام- : ((مَا تذكَّرتُ مَصرع بَني فاطمة، إلاَّ خَنقتني العَبْرَة))[11] اهـ ، وقال وقد سُئل عن بُكائه : ((لا تلومُوني ؛ فَإنّ يَعقوب -عليه السلام- فقدَ سِبطَاً مِن وَلَده فَبكَا حتى ابيضَّت عَيناهُ مِن الحُزن ؛ ولم يَعلَمْ أنّهُ مَات ، وقَد نَظرتُ إلى أربعَة عشر رَجُلاً مِنْ أهلِ بَيتي يُذبَحُون في غَداة وَاحِد ، فَترون حُزنَهم يَذهبُ مِنْ قَلبي أبداً))[12] وحتّى قيلَ أنّه ما رُئي مُبتسماً إلاّ عندَما أرسلَ المُختار بن أبي عبيد الثقفي برأسِ عُبيدالله بن زياد ، وفي ذلك يروي الإمام المرشد بالله يحيى بن الحسين الشجري الحسين ، بإسناده ، عن عُمر بن علي بن الحسين –عليهم السلام- ، قال : ((كَان أبي يُصلّي مِنَ اللّيل، فَإذا أصبحَ خَفق خَفْقة ثمّ يَدعو بالسِّواك، ثم يتوضّأ، ثم يدعو بالغَداء فَيُصيب منه قبل أن يَخرج، فبعَثَ المُختار برَأسِ عُبيد الله بن زياد وعمر بن سَعد ، وأمرَ رَسُوله أن يتحرّى غدَاء عَلي بن الحسين -عليهما السلام- ، فَفعلَ رَسُوله الذي أمرَه فَدخَل الرّسُول عَليه فَوضَع الرَّأسّين بَين يَديه ، فَلمّا رَآهُما خَرّ سَاجِدَاً لله، وقَال: الحَمدُ لله الذي أدْرَك لي بثَأرِي مِنْ عَدوّي))[13] اهـ .ويصفُ حال آل محمّد في ذلك الموقفُ الإمامُ نجم آل الرسول القاسم بن إبراهيم –عليهم السلام- ، قال يتكلّم عن المختار : ((وقد دعَا لَه جَميعُ آل محمّد الرِّجَال والنّساء، حِين بَعث إليهم برَأس عُبيد الله بن زياد -لعنة الله عليه-))[14]اهـ ، وهذا كان بعد ست سنوات من مقتل الإمام الحسين –عليه السلام- ، أي سنة (67هـ) ، وهذا الشفاء ليس شفاء وثأر الجاهليّة ، ولكنّ شفاءٌ هُو من روحٍ ومصداق قول الله تعالى : ((وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُّؤْمِنِينَ)) .
كانت أحداثُ كربلاء ومأساتها أمام عيني الإمام السجّاد –عليه السلام- ، لمّا كان الظّلمَة يرتعون غير مُؤاخذين بظُلمِهم ، بل إنّ الظّلمَة يزيدونَهم طُغياناً وتحكّماً في العباد والبلاد ، حّتى كانت تلك الروح الثائرة ضدّ الظّلم في نفس الإمام السجّاد –عليه السلام- تُتابعُ ظلمَة كربلاء وقتلَة المُؤمنين ، كلّما مرّ ركبٌ أو معرفَة من النّاس ، حّتى مرّ به بشر بن غالب الأسديّ ، فيروي الإمام المرشد بالله يحيى بن الحسين الشجري الحسني ، بإسناده ، ، عن بشر بن غالب الأسدي -وإليه تُنسب جبانة بشر بالكوفة- ، قال: حَجَجتُ سنةً ؛ فَأتيت علي بن الحسين -عليهما السلام- زَائراً ومُسَلِّماً، فقال لي: يَا بشر، أيّكم حرمَلَة الكَاهلي؟. قُلت: ذَاك أحَد بَني موقِد . قال: أوقدَ الله عَليه النّار ، وقَطَع يَديه ورِجْلَيه عَاجِلاً غَير آجِل ؛ فإنّه رمى صَبِّياً مِنْ صِبيانِنَا بِسَهْمٍ فَذبَحَه))[15] ، وذلك الصّبي هُو عبدالله الرّضيعُ ولد الإمام الحسين –عليه السلام- قتله حرملة هذا ، وهو حرملة بن كاهل الأسدي .
الذي أريُد أن يلتفتَ إليه المُتزوّد هُو أنّ الإمام علي بن الحسين –عليه السلام- شخصيّةٌ قد اختُزلَت عند البعض في شخصيّة الرّجل البكّاء المُغرق في البُكاء المُسالم للظّلمَة ، الذين يذكرُ البعض أنّ مسرف بن عقبة قد قال فيه أنّه (خيرٌ لا شرّ فيه) ، وأنّ الزّهري يقول فيه لعبدالملك بن مروان : أنّه لا خوف منه وإنّه مُنشغلٌ بنفسه ، إنّ الخيرَ علامة المُؤمن ، والشّر يستعيذُ منه المُؤمن ، إلاّ أنّ ذلك إذا كان على ألسنة الظّلمة وأعوانهم والموضوعُ في مادّة مُنابذَة الظّلم ، فإنّ مواضيع الخير والشّر تختلف ، فإنّ الظّالم يرى الشّر هُو العدل ورغبة الأمر بالمعروف والنّهي عن المُنكر ، ويرى الخير هُو موالاة الظّلمة أو الانصرافُ عنهم وعدم القيام بفريضة القرآن في وجوههم ، فليسَ ذلك من الظلمة وأعوانهم ثناءٌ على الإمام علي بن الحسين –عليهما السلام- ، وليسَ هُو واقعُ الإمام علي –السلام- .
ثمّ يلتفتُ النّاظر إلى خدعةٍ قد تذهبُ إليها النّفس المتصوفّة بالغلوّ في معنى الاعتزال والسّكون والهُدوء والاقتصار على العبادة دوناً عن النّظر في حال الأمّة ؛ فإنّ هذه النّفس قد تقرأ ما نسطّرهُ هنا من حال الإمام علي بن الحسين –عليه السلام- على أنّه صرفٌ عن تلك الشخصيّة البكّاءة العابدَة العالمَة المُحَدِّثَة بالرّوايات والأخبار للأمّة ؛ لتكونَ شخصيّته هي تلك الشخصيّة الدمويّة المُتعطّشة للحُكم وللقتل والانتقام والثّأر ، هذه قراءةٌ من وحي الشّيطان في نفس ذلك المتضعّفِ ، لأنّ أمير المؤمنين –عليه السلام- وهُو الشخصيّة التي لا يبلغُ أحدٌ عبادَته في هذه الأمّة بعد رسول الله –صلوات الله عليه وعلى آله- ، ولا العلم ولا الحديث ، كانت تلك الشخصيّة التي علمها الجميع في وجه النّاكثين والقاسطين والمَارقين بل وفي زمن من تقدّمَه –عليه السلام- بالإنكار بمراتب الإنكار التي يقدرُ عليها بالقلب أو اللسان أو اليدّ ، وقد حصلت مقاتل فيمن يُخالفه فهل استحقّ بهذا أن يكون شخصيّة مُتسلّطة أو دمويّة أو ناظرةً إلى الحُكم من حيث هُو تملّك ورئاسةٌ وتنفذٌّ ؟!. لا يقول بذلك إلاّ النّاصبَة ، ثمّ لا يُستغفَل في هذا الأمرِ إلاّ متضعّفٌ قد أهلكَته نفسه المتصوّفة الزّاهدة في العدلِ المُسالمَة للظّلم البعيدةُ عن الأمّة وأحوالها ، وهذا ليس من روح القرآن ، ولا من هَدي السنّة ، ولا هُو طريقَة العترة ومنهم الإمام علي بن الحسين –عليه السلام- ، بل حتّى الإمام الحسن السّبط –عليه السلام- ما وَسِعَه الذي وسعَه إلاّ بعد إبلاء العُذر والجَهد ، فحصل الخذلان ثمّ روحه الأمر بالمعروف والنّهي عن المُنكر وإن لم تصلنا الأخبار كثرةً عنه –عليه السلام- ، وحال الإمام الحسين السبط –عليه السلام- فظاهرٌ في الأمر بالمعروف والنهي عن المُنكر ، حتّى ذهب بعض النّاصبة إلى أنّه خروجٌ لأجل المُلك ، والله المُستعان ، أو يكادون ينطقون بهذا ؛ وأنت إذا وقفتَ على هذا وقفتَ على أنّنا في هذا المبحث إنّما نبرز جانباً من شخصيّةٍ لا يريدُ الرّافضة الالتفات إليها ، وأيضاً لا يُريدُ بعض من غلا في التصوّف الالتفاتُ إليها ، وكذلك مَن كان لسان حاله تقرير الظّلمة بعدم الخروج كأنّه يريد أن يستشهد بعدم خروج الإمام علي بن الحسين –عليهما السلام- ، فنحنُ نبرزُ هذا الجانب ، وليس هذا الإبراز منّا عدم تقريرٍ لصفات فاضلةٍ أخرى فيها كانَ بها أيضاً قدُوةٍ لسائر العترة والمؤمنين ، منها عبادَته حتّى كان يُسمّى زين العابدين ، بل قد جاء الخبر أنّه إذا كان يوم القيامة نُودي فليقُم سيّد العابدين ، أو بمعنى هذا ، ومنها علمُه الكبير الواسع ، ومنها ورعه وزُهده ، هذا كلّه نحنُ نثبتُه ونراه به قدُوةً ، والمُسلمون لا يجهلون هذا من حاله –عليه السلام- ، فقد نحنُ نبرزُ ما لا يُلتفت إليه ، نبرزُ شخصيّةٍ هي من روح طريقَة العترة ومنهجهِم في الأمر بالعروف والّنهي عن المُنكر ، فإنّ أصلَهم وطريقتهم أنّ أعلام العترة –كما مرّ معك في المبحث القريب- إمّا كانوا هُم المُجاهدين الدّعاة في وجه الظّلم ، أو كانوا صانعين لأجيالٍ من ذريّتهم تقومُ في الأمّة وتدعو بالإمامة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وكذلك كان زيدٌ الإمام الشّهيد ابن الإمام سيّد العابدين ابن الإمام الحسين الشّهيد ابن الإمام علي الشّهيد –عليهم السلم- ؛ لأنّه لمّا غابت هذه الشخصيّة المُتربطة بالأمر بالمعروف والنّهي عن المُنكر من شخصيّة الإمام السجّاد –عليه السّلام- صدّقَ الإمامية أنفسهم عندما وجدوا رواية مُختلقَة بعنوان الوصيّة من السماء ، وفيها التوجيه بـ : ((أنْ أطْرِق ، واصْمِت ، والزَم مَنزِلَك ، واعبُد رَبّك ، حتّى يَأتيك اليَقين)) اهـ ، وهذا الواضعُ المُتأخّر لهذه الرّواية كان يُعبر عن قراءته للأشخاص من أعلام من بني الحسين المقتدّمين عنه ، بل كان –عليه السلام- لا يرى ذلك الصّمت ، ويرى أنّ الكلام فيما وجهه الحجّة والمنطق القرآن –وناهيك بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر- أفضل من السّكوت ، بل يرى أنّ الكلام هُو منهاجُ الوصول إلى الحقّ ، ويرى أنّه منهاجُ الأنبياء والأوصياء ، فيروي الطبرسي –من الإمامية- ، قال : ((وسئل [أي الإمام علي بن الحسين] –عليه السّلام- عَن الكَلام والسّكوت أيّهما أفضل ؟!. فقال –عليه السلام- : لكلّ وَاحِدٍ مِنهما آفَات ؛ فإذا سَلِما من الآفات فَالكَلام أفضل مِنَ السُّكوت. قِيل وكيف ذاك يا ابن رسول الله ؟!. قَال : لأنّ الله -عز وجل- مَا بَعث الأنبياء والأوصياء بالسُّكُوت إنّما يَبعَثُهم بالكَلام ، ولا استُحِقَّت الجنَّةُ بالسُّكوت ، ولا استُوجِب ولاية الله بالسّكوت ، ولا تَوقيتُ النّار بالسُّكُوت ، ولا تجنُّب سَخط الله بالسُّكوت ، إنّما ذلك كلّه بالكَلام ، وما كُنت لأعدِل القَمَر بالشَّمس ، إنّك تَصف فَضل السُّكوت بالكَلام ، ولستَ تَصف فضَل الكَلام بالسُّكوت))[16] اهـ ، فتأمّل هذه من رواية الإمامية ، ثمّ تأمّل ذلك الواقع الذي يريدُ عُلماء وفقهاء الإمامية أن يصوّروا أئمّتهم أخيار ولد الحسين به من السّكوت والتقيّة ؟!. ذلك وأنت اللبيبُ الحصيفُ عائدٌ إلى أنّ أولئك الأئمّة لم ينطقوا بما ينهضُ به النّقل في الأمّة بما يُوافقُ عقيدتهم الإمامية ، لم ينطقوا بالنّصوص ولا الوصايا ولا أحقيّتهم بذلك الاختصاص الإلهي دون غيرهم –إلا بما تفرّدت به الإمامية- ، فعلّل ذلك الإمامية يريدون تصديقَ انفرادهم عن أولئك الأعلام بأنّ ذلك من طريقتهم ومنهجهم في السّكوت والتقيّة والمُوادعَة للظّلمة ، وقد وقفتَ قريباً على قول الثلاثة مشائخ الإمامية الكبار المفيد والمرتضى والطوسي .
بل إنّك من داخل التراث الإماميّ نفسه ، كما وقفتَ قريباً من رواية الطبرسي وأنّه يرى أنّ الأصل من حال إبلاغ الحقّ والشّرع هُو الكلام ، وليسَ من ذلك ما رواه الكُليني من الصّمت ولزوم المنزل ، فإنّك تجدُ أنّ الإمام السجاد -عليه السلام- كما تقرّر الزيدية من حاله في الدّعوة والأمر بالمعروف والنّهي عن المُنكر ، وكما وقفتَ من رواية الحاكم الحسكاني الحنفي أنّه كان يرى أنّ السّابق بالخيرات –أي الإمام- هُو من يقوم ويشهر سيفه في وجه الظّالمين ، أي الأمر بالمعروف والنّهي عن المُنكر ، فإنّك تراه في رواية الإمامية الصّحيحة عند الكليني[17]، والموثّقة عند المجلسي[18] ، يرى أنّ البيعَة والجهاد مع المستحقّ الآمر بالمعروف والنّاهي عن المُنكر –أي الدّاعي- لازمةٌ له لو كان من داعٍ وصاحبُ فضلٍ في زمانِه ، وهذه هي نظريّة الزيدية ، وهي من صميم الدّعوة التي أتينا عليها في البيان في المبحث الأول القريب وسابقه من الفصول ، والصفات في الآية هي من صفات الإمامة عند الزيدية ، فمن رواية الكليني ، بإسناده ، عن سماعة، عن أبي عبد الله -عليه السلام- قال: لقي عبّاد البَصري عَلي بن الحسين -صلوات الله عليهما- في طَريق مكّة فقال له: يا عَلي بن الحسين ، تَركتَ الجهاد وصُعوبَته ، وأقبَلتَ عَلى الحَجّ وَلينته ، إنّ الله -عز وجل- يَقول: ((إنّ اللَّهَ اشْتَرَىٰ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ ۚ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَىٰ بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُم بِهِ وَذَٰلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ)) ، فقال لَه عَلي بن الحسين -عليهما السلام- : أتِمَّ الآية . فقال: ((التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ الْآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنكَرِ وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ)) ، فقال علي بن الحسين -عليهما السلام- : إذَا رَأينَا هَؤلاء الذين هَذِه صِفَتُهم ؛ فَالجهَادُ مَعهم أفضَلُ مِنَ الحَجّ))[19] اهـ .
وفي هذه الرّواية وقفات ، منها : أنّ الإمام السجّاد –عليه السلام- يرى أنّ بيعَة الإمام الدّاعي واجبةٌ عليه لمّا كانَ الجهادُ معه أفضل من فريضة الحجّ ، فتلك فريضَةُ أوكَد لخطِر مقام الإمامة في استقامَة أمور المُسلمين وإمضاء الفرائض والشّرائع والأحكام ، وهذا يُصحّح قول الزيدية في الدّعوة ويرفع القول بالنصّ .
والوقفة الثانية : أنّ الإمام السجّاد –عليه السلام- لم يكُن يرى في نفسه إماماً مُفترضاً الطّاعة بالنصّ أو الوصيّة ، أو أنّه من الدّعاة في ذلك الوقت ، لمّا كانَت تمتدّ نفسه بالجهاد مع الإمام الدّاعي من آل الرّسول –صلوات الله عليه وعلى آله- ، وذلك كان أيضاً من دُعائه –عليه السلام- أن يكون من أنصار دُعاة آل محمّد ، قال في دعائه لنفسه وللمؤمنين : ((اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّد وَآلِهِ، وَاجْعَلْنِي لَهُمْ قَرِيناً، وَاجْعَلْنِي لَهُمْ نَصِيْراً))[20] اهـ ، وهذا فظاهرٌ في الرّد على عقيدَة الإمامية من الرواية الصحيحة عند الكليني والموثقة عند المجلسي فمَن يطلبُ الجهادَ معَ مَنِ الجهادِ مَعهم هُو أفضل من الحجّ فإنّه لا يكون هُو الإمامُ .
فإن قيل : وفي هذا ، سيكونُ الإمامُ السجّاد على غير بيعَة وُنصرة ابن عمّه الإمام الرّضا الحسن بن الحسن –عليهم السلام- ؟!.
قلنا : يجوزُ ، أنّه قال ذلك قبل دعوة ابن عمّه ، هذا لو قد صحّحنا رواياتكم واعتمدناها ، لأنّنا إنما نأتي بها في مقام القراءة المقارنة كحجّة عليكم في تعدّد القراءة المُخالفة على قولِكم ، فيتفقّه هذا القارئ من مقاصدنا . على أنّنا أيضاً في قراءة أخرى للخبَر ، أنّه لو قيل : أنّ مقصد الإمام السجّاد –عليه السّلام- : ((فَالجهَادُ مَعهم أفضَلُ مِنَ الحَجّ)) ، يريدُ أصحاب تلك الصّفات ، على أنّ القصد هُو صفات المُجاهِدين ، لو كان من أتباعٍ هذه صفَتهم في الإيمان والورع والتّقوى ، فإنّنا سنقومُ وُنجاهد ، ولكنّه لا أتباع بهذه الصّفة ، فإنّه حتّى لو قيل بهذا في المعنى ، فإنّ هذا دالٌّ على قول الزيدية أيضاً في الدّعوة ، لأنّ الدّعوة تكون للأمر بالمعروف والنهي عن المُنكر ومُجاهدَة الظّالمين لتحقيقِ الشرع وتطبيقه ورفع المَظالم ، فيكون المعنى لوجبَت الدّعوة والجهاد عليه ، لأنّ من أصول أهل البيت –عليه السلام- أنّ الدّاعي ينظرُ غلبَة الظنّ في إجابَته ممّن بمثلهم يُنتصر لو قامَ ودَعا وذلك فعائدٌ إلى تدبيرِ الصّالح للدّعوة في زمانه ، ثمّ الإثم يلحقه إذا قد كانَ واجداً لشرائط الإمامة وظنّه يغلبُ في الإجابَة وإزالة المُنكر وهو لا يدعو ولا يقوم ؛ فيكون الخبرُ تقدَمة عذرٍ من الإمام –بهذا المعنى الثّاني- بأنّه لا يجدُ من يتوثّقهم أو العدد الكافي من المؤمنين للانتصار على بني أميّة ، وإنّما قلنا العدد الكافي من المؤمنين للانتصار بهِم لمّا لم يكُن شرطاً أن يكون جميع أصحاب الإمامِ على هيئةٍ واحدةٍ من الإيمان والصّلاح ، بل قد يستعينُ الإمامُ بالفاسق إذا ألجأه الأمرُ بحيث نكون اليدُ يدُ الإمام لا يدُ الفاسق في مقاليد الأمور ، وهذا معلومٌ من أصول العترة –عليهم السلام- ، ثمّ بعد ذلك فإنّه بتوفّر أولئك المجاهدين من أصحاب تلك الصّفات ليكون الخُروج ، فإنّ في ذلك هدمٌ لأصل الإماميّة في تحريم الأئمة الخروج على أنفسهم ، وإظهار التقيّة ، وأنّ ذلك أمرٌ موضعه الإمام القائم الثّاني عشر ، فهذا الإمام السجّاد –عليه السلام- يراهُ في حقّ نفسه –نعني الخُروج- لو كانَ معه ناصرٌ ومُعين وهذا هُو قول الزيدية ، وكذلك كان يقولُ الإمام الصّادق جعفر بن محمّد –عليهما السلام- ، في أنّ الدّعوة كانت تسعه والقيام على الظّلمة لو كان معه ناصرٌ ومعين يتوثّقهم ، وذلك من رواية الإمامية يرويه الكليني ، بإسنادٍ صحيح عنده ، من روايةٍ قال فيها الصادق –عليه السلام- : ((والله يا سدير لو كَان لي شِيعَةٌ بِعَدد هَذه الجِدَاء ، مَا وَسِعَني القُعُود. ونَزلنا وصَلّينا فلما فرغنا من الصَّلاة عَطفتُ عَلى الجِداء فَعَددتُها فإذا هِي سَبعَة عَشَر))[21]اهـ ، فالدّعوة وعدم القُعود هي عقيدة أئمة العترة –عليهم السّلام- ، وليس من دينهم ذلك الانتظار وذلك الذي يقولونه في تحريم الخروج بالسّيوف والسّكون ، بل هُم على عقيدة الأمر بالمعروف والنّهي عن المُنكر ، حتّى كانَ الإمام الصّادق -عليه السلام- يقول : ((والله لَوددتُ أنّي أَصْنَعَ مِثلمَا صَنعَ عَمّي))[22] ، وقد يكون للفاطمي طريقة مع نفسه وتدبيره في توثّق النّاس يغلبُ معها ظنّه بإجابَة من توفّر له ، بينما لا يكون ذلك ظنّ آخرين ، ثمّ لا يمنعُ ذلك القائم من القيام والدّعوة بمن غلب على ظنّه الانتصار بهم ، ولا يكون ذلك عاذراً للبقيّة ، إذا قد ثبتت صفة التدبير لذلك القائم وحسن السّياسة ، وأنت فتعلمُ من نصحَ الإمام الحسين –عليه السلام- بعدم الوثوق في أحوال أهل الكوفة لمّا كانوا خاذلين لأبيه وأخيه ، ثمّ هُو –عليه السلام- لم يلتفت عندما استقرّ في نفسه من التوثّق أنّهم سيفونَ له بالبيعة والنّصرة ، فذلك أمرٌ نسبيّ ربّما لو تكرّر مع الإمام السجّاد أو الإمام الصّادق أو الإمام عبدالله بن الحسن –عليهم السلام- من فعل أهل الكوفة ما أجابُوهم رأساً ، لمّا كان غلبة ظنّهم عَدم الوفَاء ، إلاّ أنّه معَ ذلك من أصول العترة فإنّ الإغراقَ في التوجّسِ في نُصرة المُؤمنين يرتفعُ معه الأمر بالمعروف والنهي عن المُنكر والجهاد ، ويرتفعُ معه النّصر ، لذلك أنت تجد أئمّة العترة –عليهم السلام- على سنّة الدّعوة والقيام الكابرُ بعد الكابر ثمّ تجدُ أولئك القاعدِين والمقتصدين أعواناً للقائمين مُناصرين ، فتتفّهم هذا الأصل برويّةٍ ، وتنظُر فيه الإمام المعصوم الحسين بن علي –عليه السلام- وطريقته ، ثمّ تتأمّل قول أمير المؤمنين –عليه السلام: – (( أَمَا وَ الَّذِي فَلَقَ الْحَبَّةَ وَ بَرَأَ النَّسَمَةَ لَوْ لَا حُضُورُ الْحَاضِرِ وَ قِيَامُ الْحُجَّةِ بِوُجُودِ النَّاصِرِ وَ مَا أَخَذَ اللَّهُ عَلَى الْعُلَمَاءِ أَلَّا يُقَارُّوا عَلَى كِظَّةِ ظَالِمٍ وَ لَا سَغَبِ مَظْلُومٍ لَأَلْقَيْتُ حَبْلَهَا عَلَى غَارِبِهَا وَ لَسَقَيْتُ آخِرَهَا بِكَأْسِ أَوَّلِهَا وَ لَأَلْفَيْتُمْ دُنْيَاكُمْ هَذِهِ أَزْهَدَ عِنْدِي مِنْ عَفْطَةِ عَنْزٍ)) [نهج البلاغة] ، وأنت فتعلم أنّه –عليه السلام- كان كثير التشكّي من أصحابه ؛ حتّى قد تمنّى مفارقتهم ، إلاّ أنّ بصيرة الإمام وتوكّله على الله لابدّ نافذَة ، ثمّ هي إحدى الحُسنيين ، إمّا النّصر أو الشّهادَة ، فأمّا طريقة الرّافضة في لعن كلّ رايةٍ قبل راية القائم ، أو المتصوّفَة المُعتزلين عن شئون الأمّة ، فأنّى يكونُ مع ذلك تحقيق ظفَر ، أو طلبُ شهادَة ، أو أمرٌ بالمعروف أو نهي عن المُنكر ، فليس لازمُ الجهاد والأمر بالمعروف والنّهي عن المُنكر انتصارٌ دائمٌ وغلبَةٌ على الظّالمين ليكون أمراً ونهياً محموداً أو جهاداً مشروعاً ، وإلاّ لرُدَّ على أمير المؤمنين وعلى الحسين –صلوات الله عليهما- ، والله المُستعان ، بل لرُدَّ على رسول الله –صلوات الله عليه وعلى آله- فيما لم ينتصر فيه المُسلمون من الغزوات ، و هذا فاعتقادٌ وقولٌ غير رَشيد ولا هُو من القرآن الكريم في شيءٍ .
ثمّ كذلك كان الإمام الصادق جعفر بن محمد –عليهما السلام- مُناصراً مبايعاً للإمام النفس الزكية محمد بن عبدالله –عليهما السلام- ، فإنّه وإن لم يتوفّر له النّاصر والمُعين الذي يتوثّقه الإمام الصادق –عليه السلام- ليقوم ويدُعو في الأمّة على منهاج آبائه بالإمامة ، إلاّ أنّه كان مُناصراً مُبايعاً لأئمّةٍ دعاةٍ من آل محمّد –عليهم السلام- ، فيتأمّل ذلك المتزوّد من طريقة العترة . ثمّ نُفيدُ أمراً أنّ الواحد من الفاطميين وعُلماء العترة كالإمام السجّاد –عليه السلام- أو غيره، إذا كانَ أمره بالمعروف ونهي عن المُنكر سيُسلّطُ عليه سلطاناً ظالماً فيقتُله ، فإنّ الله تعالى قد شرعَ له ولغيره من المُسلمين التقيّة كرخصةٍ ، وهذه التقيّة ليس وجهه تضليل العباد من القُدوة ، وإنّما وجهها تركُ الأمر بالمعروف والنّهي عن المُنكر باليد أو اللسان ، فأمّا بالقلب وذلك أضعفُ الإيمان فلا يجوزُ له أن يتركُه ، بل عليه أن يكون في نفسِه من ذلك الظّالم على براءٍ ، ودُعاء لله تعالى أن يُخلّصه ويُخلّص الأمّة من ظُلمه وطُغيانه ، ثمّ يكونُ على ذلك الحال مُتحيّناً إجابة الدّاعي من آل الرّسول –صلوات الله عليه وعلى آله- ، ثمّ للكلامٍ تفصيلٌ في الهجرة ، ونحنُ فقد أتينا بهذا الكلام ليتفقّه النّاظر ما رواه أبو ُنعيم ، بإسناده ، حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ أَبِي حَبِيبٍ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ، قَالَ: ((التَّارِكُ لِلْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ، كَنَابِذِ كِتَابِ اللهِ وَرَاءَ ظَهْرِهِ، إِلَّا أَنْ يَتَّقِيَ تُقَاهُ، قِيلَ: مَا تُقَاتُهُ؟ قَالَ: يَخَافُ جَبَّارًا عَنِيدًا أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْهِ أَوْ أَنْ يَطْغَى))[23]اهـ ، فهذا منه –عليه السلام- بيانٌ لوجه الرخصة في الترك للأمر والنّهي ، مع التّحذير الشّديد في أنّ مَنْ ليس هذا حالُه ، فإنّه إذا تركَ الأمر بالمعروف والنّهي عن المُنكر فإنّه كنابذِ كتاب الله تعالى وراء ظهرِه ، وشاهدُ ذلك في الرّخصَة والتحذير أيضاً ، قول الله تعالى : ((لَّا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِن دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَن يَفْعَلْ ذَٰلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ إِلَّا أَن تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ)) ، فإنّ الواجبَ على المؤمنين أن ينظروا أهل بيت نبيّهم ويلتفّوا عليهم بالنصرَة والتكثّر حولهم وبذل النّفس والسّمع والطّاعة ليسَعهم القيام والدّعوة فيهم ثمّ إقامة تلك الفريضَة العادلة الأمر بالمعروف والنهي عن المُنكر والإمامة بالعُظَمى ، فيتفّهم ذلك النّاظر موفّقاً والمتزوّد ، لأنّ تقيّة الإمامية التي يعتقدونها ليسَت من هذا القبيل ، بل هي زائدَةٌ إلى إيقاع المفسدة في الأمّة ، والتضليل بالفتاوى ، ثمّ عدم إخبار الأمّة عن إمامَة الأئمّة ، ثمّ يرفعون الأمر بالمعروف والنهي عن المُنكر عن أصحابهم حتّى قيام القائم ، وقد وقفت على قول الشيخ المفيد وهو هذا نعيده ليربط المتزود لفائدة ، وليس الغرضُ إعادة ذات قول المفيد كقولٍ يخصّه ، وإنّما ليتنبّه النّاظر أنّ ذلك منه عقيدةٌ آتيةٌ من روايات كثيرةٍ وتعاليم إمامية يتقيّدونها ، فقط الشيخ المفيد قد لخّصها وجمعها ، فيقول : ((انّ مُلوك الزّمَان إذ ذاك كانوا يَعرفون من رأي الأئمة عليهم السلام التقيّة، وَتحريم الخُروج بالسيف على الولاة، وعَيبُ مَنْ فَعل ذلك مِنْ بَني عَمّهم ولومِهم عليه، وأنّه لا يجوز عندهم تجريد السيف حتى تركُد الشّمس عِند زوال، ويُسمع نداءٌ منِ السماء باسم رجل بعينه، ويُخسف بالبيداء، ويقوم آخر أئمّة الحق بالسيف ليزيلَ دولة الباطل))[24] اهـ ، فأينَ هذا من التقيّة في الآيَة ، وأينَ هذا من التقيّة في كلام الإمام السجّاد –عليه السّلام- القريب ، وإنّي ناظرٌ إلى فائدَةٍ أكبر من هذا التفصيل ، وهي أن يكون المُتزوّد مُميّزاًُ بأفقٍ واسعٍ والآخَر الإمامي يتذرّع بأعذار التقيّة ، ليعرفَ مواضع التقيّة من عدمَها ، وكيف أنّها وإن جازت في مواضع ، فإنّها ترتفعُ في مواضع مُتقاربَة من حال الشخص نفسه ، وفي الزّمان الواحد ، لا أنّ ذلك غير مرتفعٍ إلاّ بعد قرونٍ من الزّمان حتى قايم القائم ، لأننا نُجوّزها في حقّ الإمام السجّاد –عليه السلام- في زمَن عدم المقدرَة ، ولغيره من أعلام آل الرّسول –صلوات الله عليه وعليهم- ولكن كرخصَة في ترك فريضَة وعزيمة الأمر والنّهي عن المُنكر في حقّهم ، إلاّ أنّهم مع ذلك يتحيّنون تغيير واقع الظّلم كوجبٍ إلهيّ عليهم ، لذلك كانت دعوة الإمام الرضا الحسن بن الحسن –عليهما السلام- وأصول الإمام السجاد التي هي أصول العترة إجابته وإن لم تنقل الرّوايات تفصيلاً في ذلك ، وهذا فسنأتي عليه في وقته ، وكذلك كانت العترة في وقتٍ لا ناصر ولا مُعين ، ثمّ كانَ الإمام زيد بن علي –عليها السلام- يقوم بالإمامة والدّعوة والأمر بالمعروف والنّهي عن المُنكر ، وهكذا تأريخ العترة –عليهم السلام- ، فيتأمّل النّاظر ماهية التقيّة هُنا فإنّها مُغايرة لما تعتقده الإمامية ، ثمّ ينظرُ إلى أنّها هُنا ناظرةٌ إلى وقتٍ يتسابقُ العترة لتغييره جهدهم عن أنفسهم وعن الأمّة لا يكون الزّمان الطّويل إلاّ ودَعوتهم قائمَة ، وهذا فقد طوّلنا فيه هُنا لئلا يظنّ البعض من رواية أبي نُعيم الأصبهاني لمكان ذكر التقيّة أنّ ذلك شهادَةٌ لقول الإمامية لمّا كانوا هُم أكثر من يلهجُ بها ، فليتأمّل ناظرٌ ، ثمّ سيجدُ النّاظرُ في سيرة الإمام السجّاد -عليه السلام- ما يجتهدُ معه الأمر بالمعروف والنّهي عن المُنكر بالمراتب المتعدّدة جهدَه ناظراً إلى الفضيلَة من ذلك ، وهذا ما قد وقفتَ عليه من سيرته الماضية هُنا ، أمام عبيدالله بن زياد ، وأمام يزيد بن معاوية ، وناهيك بهما من طاغيتين .
بل إنّك من داخل تراث الإمامية تجد شخصية الإمام الحسين –عليه السلام- على خلاف ما يصدّره عُلماؤهم مما وقفت عليه من قول الثلاثة مشائخهم الكبار ولازمِه ، ثم هو مصداقٌ لقولنا أنّه وإن وسع في وقتٍ تقيّة فإنّهم يتحيّنون إحياء الأمّة للقيام بفريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر للالتفاف حولِهم ، ليقوم داعيهم بفريضة الدعوة مع أمّة تدين بطاعتهم والقيام معهم ، فيروي ابن طاوس خطبة الإمام السجاد –عليه السلام- في أهل المدينة أو لما اقترب من المدينة ، مما هو ظاهرٌ معها أنّها يُريدُ أن يبعثُ فيهم همّة الّنصرة لهم والالتفاف حول سادات بني الحسن والحسين –عليهم السلام- ، فقال فيهم يُخبرُ بفاجعة كربلاء : ((الحمد لله رب العالمين ، مالك يوم الدّي ، …، أيّها القَوم إنّ الله وله الحمد ابتلانا بمصَائب جليلة ، وثلمة في الإسلام عظيمة ، قَتل أبو عبد الله الحسين -عليه السلام- وعترته وسَبي نسائه وصبيته ، ودَاروا برأسه في البلدان مِن فوق عامل السَّنان ، وهذه الرزية التي لا مثلها رزية ، أيها النّاس فأي رِجَالات مِنكم يُسَرون بعد قَتله ، أم أي فُؤاد لا يحزن مِنْ أجله ، … . يا أيّها النّاس أي قَلبٍ لا ينصدع لِقَتله أم أي فؤاد لا يحنّ إليه ، أم أي سَمعٍ لا يَسمع هَذه الثّلمة التي ثُلمت في الإسلام ولا يُصم ، أيّها الناس أصبَحنا مَطرودين مُشرَّدين مَذودين وشَاسعين عَن الأمصار ، كأنّا أولادُ تُرك وكَابل مِن غير جُرمٍ اجترمنَاه ، ولا مكروه ارتكبناه ، ولا ثلمة في الإسلام ثَلمناها ، مَا سَمعنا بهذا في آبائنا الأولين ، إن هذا إلا اختلاق . والله لَو أنّ النبي تقدَّم إليهم في قِتالنا كما تقدَّم إليهم في الوصاية بِنَا لما زادُوا على مَا فَعَلوا بنا ؛ فإنّا لله وإنّا إليه رَاجعُون مِن مصيبة مَا أعظمها وأوجعَها وأفجَعها وأكظّها وأمرَّها وأفدَحها ، فِعند الله نحتسب فيما أصابنا ، وأبلغ بنا ، فإنّه عَزيزٌ ذُو انتقام ))[25] اهـ .
وفي فيتأمّل النّاظرُ ، فإنّ روح هذا الفعل بعثُ الإيمان في أرواح العباد ليقوموا معهم في مظلوميّتهم تجاه بني أميّة ، ثمّ هي مظلوميّة عُموم الأمّة ، فإنّ أهل البيت –عليهم السلام- وصيّة رسول الله –صلوات الله عليه وعلى آله- في الأمّة نصرُهم ومودّتهم ، فكيف مظالمُ غيرِهم ، فكيف تحريف وتأخير الشّرائع ، والله المُستعان .
ثمّ قام البعض من الإمامية من أمثال هذه الخطبة يستنبطون التأصيل للبكائيات والتجمّع للحسينيات والعزاء ، كأكبر همّ وشاغلٍ ، دون التأمّل في أدبيّاتها في استنهاض المُسلمين للالتفاف حول أهل بيت نبيّهم واستنباط مقام الدّعوة والإجابة لداعي آل الرّسول من سادات بني الحسن والحسين –عليهم السلام- ، إلاّ من رحمَ الله من الأقلام المتأخّرة منهم –أي الإمامية- الذين أثّرت فيهم من عقود أربعة قريبة أو تزيد قريباً تجربة الخروج إلى الجهاد والثورة في وجه الظالمين على يد ولي الفقيه ، مُخالفين على أصولهم في الرّكود والسّكون ، وقبل ذلك فأنتَ تقفُ على أنّ الإمام السجّاد –عليه السلام- في خطبته تلك غير ملتزم بالصّمت والسّكون كما هي الوصية الإلهية النازلة بالخواتيم من السّماء من رواية الكليني الصحيحة عنده كما مرّ معك ، والله المُستعان ، ثمّ لا زالت جماعة من الإمامية اليوم على خلاف أصحابها في الثورة وأنهم بذلك مُتعدّون على حقوق صاحب الزّمان القائم الثاني عشر ، والله المستعان ، ثمّ أفيدُ أنّ إيراد تلك الخطبة ليس منّا في مقام التصحيح وإنما الاستشهاد على الآخر بروايته .
– [الإمام الرّضا الحسن بن الحسن –عليهما السلام- في حصار ابن الزّبير للشِّعْبِ] :
في تلك الفترة كانَ الإمام الرّضا الحسن بن الحسن –عليهما السّلام- قدَ عادَ إلى كربلاء ، بعد أن عالجَه أخوالُه الفُزاريّون ممّا أثخنَه من الجراحات في كربلاء ، حتّى قال ابن حبّان في وصف ذلك : ((وجرح فِي ذَلِك الْيَوْم الْحسن بْن الْحسن بْن عَليّ بْن أبي طَالب جِرَاحَة شَدِيدَة حَتَّى حَسبوه قَتِيلاً))[26] ؛ بعد ثلاثة أشهر ، ثمّ ما بين سنتي (65-67هـ) كانَ عبدالله بن الزبير يريدُ بني هاشم على بيعته بالقوّة حتّى أنّه جمع الحطَب وحصرَهم في شعبِ بني هاشم ويقال في زمزم ، وأرادَ تحريقَهم إذا لم يُبايعوا ، وكان ممّن رفضَ بيعتَه الإمام الرّضا الحسن بن الحسن –عليهما السلام- ، وكان كبير بني هاشم في ذلك الوقت هُو ابن الحنفية محمد بن علي بن أبي طالب –رضوان الله عليهم- ، فيروي البلاذري : ((فحبسَه وأهلَ بَيته ومَن كَانَ مَعَهُ مِن أصحَابه أولئك بزمزَم، ومنع النَّاس مِنهم ووكَّل بهم الحرَس. ثُمَّ بعث [أي عبدالله بن الزبير] إِلَيْهِمْ أعطِي اللَّه عهدًا لَئن لم تُبايعوني لأضرِبَنَّ أعنَاقَكُم أَوْ لأحْرِقَنَّكُم بالنّار! .
وَكَانَ رسوله بِذَلِكَ عَمْرو بْن عروة بْن الزُّبَيْرِ، فَقَالَ لَهُ ابْن الحنفية : قُل لِعَمِّك لَقد أصبحتَ جَريئًا عَلَى الدِّمَاء ، مُنتهكَاً للحُرْمَة ، مُتلثلثًا [أي مُتمّرغاً] فِي الفتنة))[27] ، ويروي ابن أبي الحديد ، قال : ((جمعَ عبد الله بن الزبير محمّد بن الحنفية وعبد الله بن عبّاس في سَبعة عشر رَجُلاً مِن بَني هاشم منهم الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب (ع) ، وحَصرَهم في شِعبٍ بمكَّة -يُعرف بشعب عَارم- وقال : لا تَمضي الجُمعة حتى تبُايعوا إليّ أو أضرِب أعنَاقَكُم ، أو أُحَرِّقَكُم بالنّار ، ثمّ نَهضَ إليهم قَبل الجُمعَة يُريد إحرَاقَهم بالنَّار))[28] اهـ ، حتّى كانَ ما كان في الرواية من استنقاذ المختار بن أبي عُبيد لابن الحنفية ولم يفَعل ابن الزبير ما همّ به .
فكانَ هذا من المظالِم التي عناها سادات العترة في ذلك الزّمان ، وذلكَ أنّه تعاقبَ عليه من طُغاة بني أميّة في ذلك الزّمان بعد يزيد ، مروان بن الحكم ، ثمّ ابنه عبدالملك بن مَروان ، ثمّ أخوه الوليد بن عبدالملك –أخزاهم الله- ، ثمّ كانَ خلال تلك الفترة فتنة الحجّاج وعبدالله بن الزبير وما ألحقوه بسادات العترة من أذيّة ، فلم يكُن للعترة في مكة والمدينة ناصرٌ ولا مُعينٌ على أمرِهم في رفع الظّلم والقيام معهم بفريضة الأمر بالمعروف والنّهي عن المُنكر ، حتّى قال الإمام السجّاد علي بن الحسين –عليهما السلام- يصفُ حال النّاس في ذلك الزّمان : ((مَا بِمَكَّة و المدينة عِشرون رَجُلاً يُحِّبنا)[29] ، والله المُستعان .
ثمّ إنّ غالب الظنّ أنّ الإمام علي بن الحسين –عليه السلام- كانَ معهم في ذلك الحِصار أو أنّه كان في المدينة وقتَها ، فأمّا الأخبار عن الأبلج زيد بن الحسن –عليهما السّلام- فإنّها قد جاءت مُضطربَة ، ولستُ أركنُ على مصادرها من كونه على موادعةٍ تامّة معَ ابن الزّبير ، ثمّ لو كان ذلك فهُو بعد الحصار بسنوات لمّا استتبّ الأمر لعبدالله بن الزبير وقتاً ، ثمّ إنّه يسعُ المكلّف حفظُ نفسِه إذا كانَ تلفُها عليه مُحقّقاً ، وأنت فقد وقفتَ على حال ابن الزّبير واجتهادِه في استئصَال مَن لم يكُن معه ، لا سيّما وأنّ هذا لا ضرر معه يتعدّى إلى الغير ، ولا يُضلّل النّاس ، ثمّ الأصلُ عدمُ عصمَة آحادِ العترة من الخطأ ، ثمّ الأصلُ أنّ الهُدَى والمِنهاج الحقّ سيبقى فيهم ومعهم يقومُ به الأعلامُ بعد الأعلام كما وقفتَ من قول الإمام الأعظم زيد بن علي –عليهما السلام- .
– [ عبدالملك بن مروان والإغراءُ بين بني هاشم وبين بني الزّبير ، وموقف الإمام الحسن بن الحسن -عليهما السلام- ] :
بعد مقتل عبدالله بن الزبير بن العوّام سنة (73هـ) ، على يد عبدالملك بن مروان ؛ فإنّه أرسلَ إلى عاملِه في المدينَة يُريدُ أن يُحدثَ فتنةً بين بني هاشم وبين بني الزّبير ، وقد كانَت أمّ أبناء الزّبير تماضر بنت منظور الفُزاريّ ؛ خالَةُ الإمام الحسن بن الحسن –عليهما السلام- ، فهي –تماضر- أخت أمّه خولَة بنت منظور الفُزاري لأمّها وأبيها ، فجاء كتابُ عبدالملك بن مروان إلى واليه على المدينة هشام بن إسماعيل المخزومي ، وفيه كما يروي ابن عساكر : ((فَمُر آل عليٍّ يَشتمون آل الزُّبير ، ومُرْ آل الزُّبير يشتمُون آل علي ،…، وكَان أوّل مَنْ أُقيم إلى جَانب المَرمَر : الحسَن بن الحسن ، وكَان رَجُلاً رَقيقَ البَشرَة عَليه يَومَئذ قَميصٌ كتّان رَقيقة ، فقال له هِشام : تَكلّم بِسبّ آل الزُّبير ، فقال : إنّ لآل الزُّبير رَحماً أبلّها ببلالَها ، وأربّها بربَابها ، يَا قَوم مَالي أدعوكُم إلى النّجاة وتَدعونُنَي إلى النّار . فَقال هشام لحرسِي عِنده : اضرِب ، فَضربَه سَوطاً وَاحِداً مِن فَوق قَمِيصِه فَخلَص إلى جلدِه ؛ فشرخَه حَتّى سَال دَمُه تحتَ قَدمِه في المرمَر))[30]اهـ ، فقد كانَ الإمام الرّضا الحسن بن الحسن –عليهما السّلام- متيقّظاً لفتنة عبدالملك بن مروان ، وناظراً إلى الرّحم لمكان خالته ، كما أنّ آل الزّبير ليسو على طريقةٍ واحدةٍ في السّيرَة ، وتحكي الرّواية أنّ الإمام السجّاد علي بن الحسين –عليهما السلام- عندماُ دُعي ، فقالوا : أنّه مريضٌ أو تمارضَ .
ثمّ يصفُ الإمام السجّاد علي بن الحسين –عليهما السلام- حالَهم في ظلّ ذلك الظّلم الأموي والتضييق عليهم ، وكأنّه يُريدُ أن يصلَ ذلك إلى أهل البصائر من الشّيعة ليقوموا بتكليفِهم في القيام بواجب النّصرة والالتفاف حول سادات بني الحسن والحسين –عليهم السلام- ، ليقوموا فيهم بفريضة الأمر بالمعروف والنّهي عن المُنكر ، فيروي الإمام أبو طالب يحيى بن الحسين الهاروني الحسني ، بإسناده ، عَنِ الْحَارِثِ بن الْجَارُودِ التَّمِيمِي، قَالَ: دَخَلْتُ الْمَدِينَةَ فَإذَا أَنَا بِعَلِيِّ بن الْحُسَيْنِ فِي جَمَاعَةِ أَهْلِ بَيْتِهِ وَهُمْ جُلُوسٌ فِي حَلَقَةٍ فَأَتَيْتُهُمْ، فَقُلْتُ: السَّلامُ عَلَيْكُمْ يَا أَهْلَ بَيْتِ الرَّحْمَةِ، وَمَعْدِنِ الرِّسَالَةِ، وَمُخْتَلَفِ الْمَلائِكَةِ، كَيْفَ أَصْبَحْتُمْ رَحِمَكُمُ اللهُ، فَرَفَعَ رَأْسَهُ إَلَيَّ فَقَالَ: ((أَوَ مَا تَدْرِي كَيْفَ نُمْسِي وَنُصْبِحُ؟ أَصْبَحْنَا فِي قَوْمِنَا بِمَنْزِلَةِ بَنِي إسْرَائِيلَ فِي آلِ فِرْعَوْنَ، يُذَبِّحُونَ الأَنْبِيَاءَ، وَيَسْتَحْيُونَ النِّسَاءَ وَأَصْبَحَ خَيْرُ الأُمَّةِ يُشْتَمُ عَلَى الْمَنَابِرِ، وَأَصْبَحَ مَنْ يُبْغِضُنَا يُعْطَى الأَمْوَالُ عَلَى بُغْضِنَا، وَأَصَبْحَ مَنْ يُحِبُّنَا مَنْقُوصاً حَقُّهُ أَوْ قَالَ: حَظُّهُ، أَصْبَحَتْ قُرَيْشٌ تَفْتَخِرُ عَلَى العَرَبِ بِأَنَّ مُحَمَّداً صلى الله عليه وآله وسلم قُرَشِي وَأَصْبَحَتِ العَرَبُ تَفْتَخِرُ عَلَى العَجَمِ بِأَنَّ مُحَمَّداً -صلى الله عليه وآله وسلم- كَانَ عَرَبِياً فَهُمْ يَطْلُبُونَ بِحَقِّنَا وَلاَ يَعْرِفُونَ لَنَا حَقًّا، اجْلِسْ يَا أبا عِمْرَانَ فَهَذَا صَبَاحُنَا مِنْ مَسَائِنَا))[31] ، وفي الخبر أنّ ذلك الهمّ كان همّاً عامّاً لجميع أهل البيت في ذلك الزّمان ، لأنّ خطاب السّائل توجّه لجماعةٍ من أهل البيت كانت عند الإمام علي بن الحسين –عليهم السلام- ، فيكون من أولئك أبناؤه ، وربّما ابن عمّه الإمام الرّضا –عليهم السلام- ، والشّاهدُ أنّ تلك الصّفة التي أخبر عنها الإمام السجّاد –عليه السلام- ، تُنبئُ عن مظلوميّةٍ كبيرةٍ عظيمَةٍ حلّت بأهل البيت –عليهم السلام- في ذلك الزّمان ، وعن مقدار الاضطهاد الذي حصَل لهم وعليهم ، وروحها استنهاضٌ للأمّة يتناقله النّاس للقيام بواجبهم تجاه أهل بيت نبيّهم ، فقد وردَ في رواية ابن عساكر نحواً من رواية الإمام أبي طالب –عليه السلام- ، من سؤال المنهال بن عمرو ، وفي آخرها ، قال : ((فهكذا أصبحنَا إذ لم تَعلم كيف أصبَحنا . قال [المنهال] : فَظننتُ أنّه أرادَ أن يُسمِعَ مَنْ في البَيت))[32] اهـ ، أي يمدّ صوتَه ويرفعه .
– [ الإمامان السجّاد والرّضا –صلوات الله عليهما- ومرحلة التّصعيد في وجه بني أميّة ، وخشيتهم منهما]:
كلّ ذلك الذي وقفتَ عليه من حال تجبّر بني أميّة كانَ ؛ ولعنُ أمير المؤمنين –عليه السلام- وأهل بيته على منابر بلاد الإسلام صادعٌ ، فكانَ هذا كلّه يصنعُ سادات بني الحسن والحسين الكبيرُ والصّغير ، يُريدون أن يجتمعَ لهم أمرٌ أو يكونَ لهم شيعةٌ يُنتصر بمثلِهم ؛ ليقوموا بسيرة آبائهم ، وبتكليفهم في الشّرع من القيام والدّعوة والأمر بالمعروف والنّهي عن المُنكر ، فما مثل ذلك الظّلم يسكتُ عنه المُؤمنون ، ليس ظُلماً على بني هاشم وفقط ، بل هُو ممتدٌّ إلى سائر الأمّة .
ولذلك أنت إذا استنطقتَ السّيرَة وجدتَ أنّه في مرحلةٍ أصبح قلقُ بني أميّة وعُمّالهم يتزايدُ من حال سادات العترة في زمانهم ، وأوّل ذلك ما استشعرَه الحجاج بن يوسف الثقفي والي المدينة سنة (74هـ) على المدينة ، فإنّه كانَ يرى من حال الإمام علي بن الحسين –عليه السلام- اضطراباً وتململاً من ظلم بني أميّة ، حالُه طلبُ النّاصر والمُعين الذي يتوثّقهُ للقيام بفريضة الدّعوة بالإمامة والخروج على بني أميّة ، ثمّ لمّا وجد الحجّاج من فضلِه وإجلالِ النّاس له –عليه السّلام- ، ثمّ لمّا كانَ حالهُ عدم الاعتداد بالجُمَعِ مع أئمّة الجور ، قال الإمام النّفس الرضيّة إبراهيم بن عبدالله بن الحسن بن الحسن –عليهم السلام- ((أمَّا عَليّ بن الحسين، -وكانَ سيّدنا أهلَ البيت- فكان لا يعتَدُّ بها معهم)[33] ، وفيه إخبارٌ بأنّه قدوةٌ وكبيرٌ لأهل البيت –عليه السلام- ، فالعترة تعرفُ مقامات كبارِهم وأعلامهم ، وناهيك بشيخ العترة في زمانه علي بن الحسين –عليهما السلام- ، ثمّ لمّا بلغ الحجّاج أنّه –عليه السلام- مُنكرٌ على بني أميّة ظُلمهم وجورهم ، ومن ذلك ما يرويه ابن عساكر ، بإسناده ، عن عبد الله بن حسن بن حسن –عليهم السلام- ، أنّه قال : ((كان عَلي بن حُسين بن علي بن أبي طالب يجلس كلّ لَيلَةٍ هُو وعُروة بن الزّبير في مُؤخّر مَسجد النبي -صلى الله عليه و[آله] وسلم- بَعد العِشاء الآخرَة ؛ فَكُنت أجلسُ مَعهما فَتحدّثَا ليلةً فَذكرَا جَور مَنْ جَار مِن بَني أمية والمقام مَعهم وهُم لا يستطيعون تغيير ذَلك ، ثمّ ذَكرَا مَا يخافَان مِن عَقوبة الله لَهم . فقال عُروة لعليّ : يَا علي ، إنّ مَن اعتزلَ أهلَ الجَور ، والله يَعلم مِنه سَخطه لأعمالهم ؛ فإن كَان مِنهم على مِيل ، ثم أصابتهم عَقوبَة الله ، رُجِي له أن يسلم مما أصابَهم . قَال : فخرجَ عُروة فسكَن العَقيق . قال عبد الله : وخَرجتُ أنَا فَنزلتُ سُويقَة))[34] ، ثمّ قد وجدتُ بعض الإماميّة يُلمّح إلى أنّ بقاء الإمام علي بن الحسين –عليهما السلام- في المدينة وعدم خُروجه من دليلِ إطراقِه ولزومِ منزلِه وسكونِه وعدم اعتقادِه بالخُروج على بني أميّة حتّى يقوم القائم ، ولعمري أنّ هذا منَ الإساءة للإمام السجّاد –عليه السّلام- ، ثمّ نردّهُ عليه من داخل رواية أصحابه الإمامية ، فيروي ابن طاوس ، عَن جابر بن يزيد الجعفي، عن أبي جعفر محمّد بن علي -عليه السلام- ، قال: ((كان أبي علي بن الحسين -عليه السلام- ، قد اتّخذ منزله مِن بَعد قتل أبيه الحسين بن علي -عليه السلام- بيتاً مِن الشَّعر، وأقام بالباديَة، فَلبث بها عدّة سِنين كراهيّة النّاس ومُلابَستهم))[35] اهـ ، فلينظُر ذلك متزوّدٌ .
كلّ ذلك كان يلحظُه الحجّاج من نفسيّة الإمام السجّاد علي بن الحسين –عليه السّلام- ، إلاّ أنّه لا ناصر ولا مُعين يتوثّقه ، وحالُه ناظرٌ إلى الشيعة في مكة والمدينة وهم قلّة لا تكادُ تذكُر ، ثمّ الحال ناظرٌ إلى الشيعة في العراق وعهدهُم قريبٌ بكربلاء من الخذلان والغدر ، فلم يغلب على ظنّه أن يُجاب إذا قام ودَعا ؛ فكان الحجّاج يرفعُ من أمرِه إلى عبدالملك بن مروان : ((إن أردتَ أن يَثبُت مُلكُك ؛ فَاقتُل علي بن الحُسين))[36]، وهذا فمن رواية الإمامية ، وإيرادُها ليس من باب التصحيح وإنّما إظهارٌ لمقام ثورية الإمام السجّاد علي بن الحسين –عليه السلام- وأنّه كان يترصّدُ الفرصَة للقيام في وجه الظّالمين يقوم بأمر الإمامة والدّعوة في الأمّة لو قد توفّر له النّاصر والمُعين ، وإلاّ فإنّ تلك الصّفة التي حكاها مشائخ الإمامية الكبار المفيد والمرتضى والطّوسي من الرّكون والموادَعة للظّلمَة والانقطاع على النّفس وتحريم الخروج عليهم حتّى قيام القائم وعدم إظهار إمامتهم –كما وقفتَ- ، فإنّها صفَة من لا يخافُه الحجّاج ولا عبدالملك بن مروان من كلّ وجهٍ ، إلاّ أنّه لمّا كان واقعُ الإمام السجاّد علي بن الحسين –عليهما السلام- مُخالفاً على ما تنظّره الإمامية من ذلك الإطراق والرّكود وتحريم الخروج ؛ فإنّك تجدُ أمثال رواية خشية الحجّاج ، وسنأتي على ما يعضّدُ ذلك بطريقٍ آخَر من رواية ابن عساكر –قريباً- .
ثمّ كذلكَ في التصعيد كان الإمام الرّضا الحسن بن الحسن –عليهما السلام- ، محلّ مُتابعةٍ وخشيةٍ لمقامه من قبل عبدالملك بن مروان ، فإنّه في زمن ولاية الحجّاج على المدينة ضايقَه فيما يخصّ صدقات أمير المؤمنين –عليه السلام- ، فرفعَ أمرَهُ إلى عبدالملك ، وفي مجلس عبدالملك يروي ابن عساكر : (( فقالَ له عبد الملك : لقَد أسرَع إليك الشّيبُ -ويحيى بن الحكم في المَجلس- ، فقال له يحيى : ومَا يَمنَعُه يَا أمير المُؤمنين ، شَيَّبَهُ أمَانيّ أهلِ العِراق ، كُلّ عَام يَقدُمُ عَليه رَكبٌ يُمنُّونَه الخِلافَة . فَأقبل عليه الحسن بن الحسن ، فقال : بِئسَ والله الرّفد رَفدت ، وليس كما قُلتَ ، ولكنّا أهل بَيتٍ يُسرِعُ إلينَا الشَّيب)) ، ثمّ بعد خروجهما من المجلس ، قال يحيى بن الحكم للإمام الرضا –عليه السلام : – (( إيها عَنك ، والله لا يَزالُ يَهابُك ، ولَولا هَيبتُه إيَّاك مَا قضَى لك حَاجَة))[37] ، ونحو ذلك روى الإمام أبو العباس الحسني –عليه السلام- في المصابيح ، ونفيُ الإمام الرّضا هُو نفيٌ لعلّة الشّيب ، لا أنّه مُتأمّلٌ من حال أهل العراق أو سائر الشّيعَة أن يقوموا بواجبهم في بذل النّصرَة لهم ؛ ليقوموا فيهم بفريضة الأمر والنّهي في الأمّة والدّعوة بالإمامَة .
فكان ذلك من حالِ الإمامَين السجّاد والرّضا –صلوات الله عليهما- تصعيدٌ يوجبُه عليهم الشّرع ، لمّا جعلهم الله تعالى من معدن الهُدَى ، وكلّهم بالقيام بفريضَة الأمر بالمعروف والنّهي عن المُنكر ، فليسَ الأمرُ نصوصٌ وقعودٌ وتخاذلٌ عن الأمّة وتحريمُ للخروج ورفع المَظالم كما تعتقدُه الإمامية مما وقفت من قول كبار مشائخِهم بل رؤساء طائفتِهم ، وكما هُو في روايات الإمامية ، ثمّ ليس ذلك واقعُ أئمّتهم ، بل طريقٌ اختلقته الإماميّةُ في الرّواية وفي افتراض شخصيّاتٍ لأخيار ولد الحسين –عليهم السلام- لهم سيرةٌ تتماشَى مع مرويات الإماميّة ، لا أنّ ذلك هُو واقع أخيار ولد الحسين –عليهم السلام- ، والله المستعان ، بل إنّك إذ تأمّلت ما رواه ابن عساكر من دعوةِ الإمام السجّاد المساكين والفقراء إليه يأتي في ذهنك أنّه كان يريدُ من المُؤمنين يهوون إليه ، فيروي ، بإسناده ، نا نَصر بن أوس أبو المنهال الطائي ، قال: رَأيتُ علي بن الحسين -وله شعرٌ طويلٌ- فَقال : ((إلى مَنْ يَذهبُ النّاس؟!. قَال ، قلتُ : يَذهبُون هَا هُنا ، وهَا هُنا . قَال : قُل لهم يَجيئون إليَّ ، وكَان يُعطيهُم التّمر))[38] اهـ ، وهذا لو قد توجّه في المقصد لكان مصداقاً لقول الزيدية في أنّ المقتصدين العلماء من أهل البيت –عليهم السلام- يستنهضون الأمّة للالتفاف حولهم ، ليكون معهم منَ العُدّة ما يظنّ الصّالح للدّعوة أنّه بمثلهِم سيُنتصَر ، إلاّ أنّ ظاهر الخبر يتوجّه للفقراء الذين لا يعلمون مَن يُعطيهم ويتصدّق عليه فهُم لا وُجهة لهم في السّؤال ، فأخبر –عليه السلام- أن يتوجّهوا إليه فكان يتصدّق عليهم ، فيتأمّل ذلك النّاظر .
– [ الإمام السجّاد علي بن الحسين –عليهما السلام- مُكبّلٌ بالقيود بأمر عبدالملك بن مروان ]:
ثمّ مصداقاً للاستقراء الذي قد وقفتَ عليه من حال الإمام السجّاد علي بن الحسين –عليهما السلام- ، وأنّ صاحب تلك الشخصيّة الثّائرَة ، النّاظرة إلى تحقيق الأمر بالمعروف والنّهي عن المُنكر بمرتبة الدّعوة والقيام والإمامة لو قد توفّر النّاصر والمُعين ، فإنّه كان يسعى لتحصيل ذلك بما يراه من وسائل في استنهاض الأمّة ، وكلّ ذلك كان لا يغيبُ عَن عُيون الأمويين ، حتّى لمّا بلغ الأمرُ غايةً فإنّ عبدالملك بن مروان أمرَ جلاوزتَه بإحضارِ الإمام السجّاد علي بن الحسين –عليهما السلام- مُكبّلاً مثقلاً بالقيود ، وليسَ هذا حال من عُلِمَ من حالِه الإطراق ولزوم منزلِه والسّكوت عن الظّلم ، وعدم سعييه للقيام والدّعوة في الأمّة ِمنهاجِ أبيه الإمام الحُسين –عليه السلام- وسائر سلفهم –عليهم السلام- ، فيروي ابن عساكر ، بإسناده ، عن ابن شهاب الزهري ، قَال : شَهدتُ علي بن الحسين يَوم حملَه عبد الملك بن مروان مِن المدينة إلى الشّام فأثقَلَه حَديداً ، ووكَّل بِه حُفّاظَاً في عِدّة وجَمعٍ ، فَاستأذنتهم في التسليم عليه والتوديعِ لَه ، فَأذنُوا لي ودَخلتُ عَليه ، وهُو في قُبّة والأقيَاد في رِجْلَيه والغلّ في يَديه ، .. [إلى قوله بعد أن ذكرَ كرامةً وجهها الدّعاء والتخلّص من تلك القيود ، ثمّ إنّه عليه السلام وردَ على عبدالملك بن مروان ، قال عبدالملك] فدخلَ عَليَّ ، فقالَ [أي السجّاد] : مَا أنَا وأنتَ . فَقُلتُ : أقِمْ عِندِي . فَقال : لا أحبّ . ثمّ خَرَجَ ، فوالله لقَد امتلأ ثوبي مِنهُ خِيفَةً . قَال الزّهري ، فقلتُ : يَا أميرَ المؤمنين ليس علي بن الحسين حيث تظنّ ، إنّه مَشغولٌ بنفسِه . فَقال : حبّذا شُغلُ مِثله ، فَنِعْمَ مَا شُغِلَ بِه))[39] اهـ ، ثمّ إنّ هذا القولُ من الزّهري يخصُّه في التوجيه ، ثم إنّ عبدالملك بن مروان ليسَ بمقتنعٍ لا بكلام الزّهري ولا بكلامِه هُو في الرّد على الزُّهري وإلاّ مَا كان أثقلَه بالحَديد يأمرُ بذلك جُنودَه من المدينة إلى الشّام ، والله المُستعان ، ثمّ كما أسلفنَا ، فإنّ من عرفَ الإمام السجّاد –عليه السلام- لن يؤمنَ بثناء الزُهري أو عبدالملك عليه في الاشتغال بنفسه ، لأنّ معنى هذا رأساً عدم الاكتراث بأمر الأمّة ، وأنّه مرضيُّ الحَال على تلك الطّريقَة ، وليسَ ذلك حالُ سلفه –عليهم السلام- ، بل حتّى الإمام الحسن السبط –عليه السلام- فإنّه كان مخوفَ الجانب من قبل مُعاوية بعد نقضِ الأخير للصّلح ، فكانَ التضييق عليه أشدّ ما يكون ، فأمّا لو كانت طريقة الإمام الحسن –عليه السلام- من حيث هي تسرّ مُعاوية فإنّه ما كانَ تعرّضَ له بالتضييق بعد التضييق ، ولا بالسّم والمُعاجلة ، فذلك الكلامُ من الزّهري وعبدالملك بن مروان في آخر الرّواية هُو عينُ كلامِ صنيعَة العباسيين من الإماميةّ الذين دجّنوا الأمّة لبني العبّاس وأخّروا فريضة الأمر بالمعروف والنّهي عن المُنكر ، حتّى صوروهم بمظهر المحرّمين للخروج ، وأصحاب التقيّة الدّائمة ، والذي يمنعون الخروج على الظّلمة حتّى قيام القائم ، حتّى استقرّ ذلك من تلك الرّوايات التي صنعها سلف الإمامية في أذهان وعقول مُتأخّريهم كمشائخ الطائفة الكبار الذي مرّ معك قولهم أو لازمه المُفيدُ والمرتضى والطّوسي ، والله المُستعان .
إنّ مَنْ هُو محلّ أمنٍ وأمانٍ من العُلماء عند السّلطة الأموية أو العباسيّة الظّالمة ، فإنّهم لن يسمعَوا في إيذائهم بالسّم أو نحو ذلك ، بل سيشيّدون طريقَتهم ، لأنّ الظّلمة لا يهمّهم ذات العلوم من الدّين ، وإنّما تهمّهم كراسي مُلكهم وسُلطانهم ، فكيفَ بعد ذلك الذي جاء على لسان كِبار الإمامية يُدعّى أنّ أئمّتهم مضيّقٌ عليهم في سرّ من رأى –سامرّاء- أو غيرها من البُلدان ، وأنّهم ماتوا مسمومين على أيدي الطّغاة ، وهُم أبعدُ النّاس عن الإضرار بِهم ، لا يرونَ خروجاً ولا ثورةً ولا استنهاضَ أمّةٍ إلاّ في زمن القائم يتديّنون بذلك ، ويعيشون التقيّة ، وفي مثال الإمام السجّاد هُو مأمورٌ بوراية الكليني الصّحيحة عنده مأمورٌ بالإطراق ولزوم منزله بأمرِ الله تعالى ، والله المُستعان .
الحقّ أنّ هذا واقعاً يحكيه الإمامية ليسَ هُو واقعُ أخيار ولد الحسين –عليهم السلام- ، ونحن إنّما خصصنا عنوان هذا المبحث ، وما بعدَه ، باستعراض سيرة أولئك الأخيار وحال سائر العترة الفاطمية الحسنية والحسينية في زمانِهم ، إلاّ ليقفَ المتزوّد والنّاظر على أنّه لا أصلَ من واقع أولئك الأعلام يشهدُ لمَا انفردَت به الإمامية في أصل الاعتقادات من كونِ تلك النّصوص والوصايا ، ثمّ مِنْ كونِ ذلك الحال القاعدِ المُبتعِد عن الأمّة ، بل إنّنا قد أتينا على شواهد تردّ على مُعتقد الإمامية –ولا أقلّ من قولِ ولازم قول الثلاثة مشائخ الطائفة- ذلك من مصنّفات الإمامية ، كيفَ يكون الإمام السجّاد كذلك وهُو الذي يروي قول جدّه أمير المؤمنين –عليه السلام- : ((العَاملُ بالظّلم ، والمُعين عَليه ، والرّاضِي به ، شُركاء ثلاثة))[40] اهـ ، بل كيف وهُو –عليه السلام- يرى أنّ درجَة السّابقين بالخيرات هي في الدّعوة والأمر بالمعروف والنّهي عن المُنكر ومُنابذَة الظّالمين ، وقد مرّ معك ما رواه الحاكم الحسكاني ، بإسناده ، عَنْ أَبِي حَمْزَةَ الثُّمَالِيِّ عَنْ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ : … فَقُلْتُ: السَّابِقُ بِالْخَيْرَاتِ قَالَ: مَنْ شَهَرَ سَيْفَهُ وَ دَعَا إِلَى سَبِيلِ رَبِّهِ))[41] اهـ ، فيتأمّل في ذلك مُتزوّدٌ وناظرٌ
– [ الإمام الرّضا الحسن بن الحسن –عليهما السلام- وبيعَة الفُقهاء ، وتعذيبُه وسمّه ]:
كانَ الإمام الرّضا الحسن بن الحسن –عليهما السلام- كحال ابن عمّه الإمام السجّاد علي بن الحسين –عليهما السلام- ، في مدينة الرسول –صلوات الله عليه وعلى آله- ، يتحيّنُ الفرصَة لاستنهاض الأمّة ، ويتأمّلُ نُصرةً والتفافاً من الشيعة حول أهل بيتِ نبيّهم ؛ ليقوموا فيهم بواجبِ الأمر بالمعروف والنّهي عن المُنكر ، لمّا كانَ الأمويون في أشدّ التضييق عليهم والاضطهاد ، حتّى وقفتَ من قول يحيى بن الحكام أمام عبدالملك بن مروان أنّه كان يترقّب حال أهل العراق كلّ سنَةٍ –ّلما كانت العراقُ بها جماعة الشّيعة- ، قال : ((ومَا يَمنَعُه يَا أمير المُؤمنين ، شَيَّبَهُ أمَانيّ أهلِ العِراق ، كُلّ عَام يَقدُمُ عَليه رَكبٌ يُمنُّونَه الخِلافَة)) اهـ ، ويظهَر أنّ الإمام الحسن بن الحسن –عليهما السلام- لم يكُن يتوثّق تلك الجماعات ، أو لا يغلبُ على ظنّه النّصر بمثلهِم ، وكذلكَ عادةً –من حال سيرة العترة- قد تكون وصلَت الإمام علي بن الحسين –عليهما السلام- ، وكلام يحيى بن الحكم ذلك كان حوالي سنة (74هـ) أو سنة (75هـ) أيّام ولاية الحجّاج على المدينة ، ثمّ بعد ذلك بحوالي سبع أو ثمان سنوات ، فإنّ ذلك الحال في الرّغبة في القيام بالواجب المُلقى على سادات العترة من القرآن الكريم ، ثم بذلك التكليف الذي دلّ على خبر الثقلين من واجب رفع الضّلال على الأمّة بالقيام ورفع المظالم وتطبيق أحكام الكتاب والسنّة فإنّه وابن عمّه لا يزالان ينظرَان الأمّة .
فلمّا كان حوالي سنة (83هـ) ، وقد كانَ عبدالرّحمن بن محمد ابن الأشعث في قتالٍ مع الأمويين في سجستان ، ومعه جمعٌ من الفُقهاء والعُلماء والقُّراء يُنكرون على عبدالملك بن مروان ، قال الإمام -صاحب الدّيلم- يحيى بن عبدالله بن الحسن بن الحسن ، فيما رواه عنه الإمام الحافظ أبو العباس أحمد بن إبراهيم الحسني –عليهم السلام- : ((فقالَ لَه [أي لابن الأشعث] مَنْ معه مِن عُلماء الكوفة والبَصرة: هذَا أمرٌ لا يَلتئمُ إلاّ برَجُلٍ مِنْ قُريش، فرَاسَلُوا عَليّ بن الحُسين ، والحسن بن الحسَن ، فأمّا عَلي بن الحسين فامتنعَ ، وأمّا الحسَن بن الحسن فقالَ: مَالي رَغبةٌ عَن القِيامِ بِأمرِ الله، ولا زُهدٌ في إحيَاء دِينِ الله ، ولكن لا وفَاء لَكُم تُبايُعونَني ، ثمّ تخذلونَني، فَلم يَزالوا به حتّى أجَابَهم)) اهـ ، ثمّ هُو كان قد طلبَ منهُم الأيمان المُغلّظة والعهود الموثّقة من ابن الأشعث ومن الُفقهاء على ذلك ، ليقبل بيعَتهم ويقومَ فيهم ومعهم ، فجاء في الرّواية بعد ذلك مباشرةً : ((ووردَ عَليه كتاب عبد الرحمن بن محمد بن الأشعث هُو والذين مَعَه [أي الفُقهاء] بالبَيعة وأيمانهم المُغلَّظة ، وأنّهم لا يخالفونَهُ ؛ فَبَايَعَهُم)) اهـ .
ثمّ الذي يظهُر من امتناعِ الإمام السجّاد ومن إجابَة الإمام الرّضا –عليهما السلام- ، وكلاهما على قول واحدٍ في الاعتقاد ، وكلاهما على طريقة الأمر بالمعروف والنهي عن المُنكر في الوجوب متى كان الناصر والمُعين يتوثّقه الفاطميّ ؛ فإنّ ذلك الامتناع من الإمام السجّاد –عليه السلام- كان ناظراً إلى ابن الأشعث ، فإنّ الإمام السجّاد لم يتوثّق شأنَه وهو رأسُهم ، والإمام الرّضا –عليه السلام- ، فقد كان ناظراً في الوفَاء إلى الفُقهَاء والعُلماء والقرّاء مع ابن الأشعث وبأيمانهم التي بذلوها . ثمّ لمّا كان الإمام الرّضا قد عزم التوجّه إليهِم يظهَرُ ، فإنّ الفقهاء قالوا لابن الأشعث : ((أظهِر اسم الرَّجُل فقد بايعناه ورضينا به إمَاماً ورِضَاً ، فلمّا كَان يوم الجمعة خطب عَليه، حتّى إذا كان يَوم الجمعة الثانية أسقط اسمَه مِنَ الخِطبَة)) اهـ ، فكان بعد ذلك مُعاجلة عبدالملك بن مروان لهُم في مَعركة دير الجماجِم ، وذلك فقبل وصول الإمام الرّضا الحسن بن الحسن –عليه السلام- إليهِم ، قال الإمام يحيى بن عبدالله بن الحسن –عليهم السلام- : ((وتَوارَى الحسَن بن الحسَن بأرض الحجاز وتهامة ؛ حتّى مَاتَ عَبدالملك بن مَروان [أي سنة (86هـ) ] ، فلمّا وَلي الوليد بن عبد الملك ؛ اشتدَّ طَلبُه للحسَن بن الحسَن ؛ حتّى دَسّ إليه مَنْ سَقَاهُ السّم)) اهـ ، وتمام الرّواية ففي كتاب المصابيح للإمام أبي العباس الحسني –عليه السلام- ، فقد غدرَ ابن الأشعث ووفى الفُقهاء –فيما ظهر من الرّواية- ، وهذه الحادثَة –أعني بيعة وقيام الإمام الرّضا بالدّعوة إلى الإمامة- إلاّ أنّه يظهرُ غير مشهورة في النّقل ، ولذلك أنتَ تجدُ بعض الأئمّة ذكروها ، والبعضُ لم يذكُرها ، والجميعُ من أئمة وعُلماء العترة فمُجتمعون على فضل الإمام الحسن بن الحسن –عليهما السلام- وإنّما المقام مقامُ بُلوغ الخبر في النّقل إليهم ، أو أنّ ذلكَ قد بلغهم فلمّا لم يستتمّ به ومعه القيام على الظّلمَة لم يذكُروه ، ذلك كلّه واردٌ ، إلاّ مَنْ أثبته في الرّواية –كما وقفت من رواية أبي العبّاس الحسني (ت353هـ)- ، فإنّه –وما مرّ معك- سابقاً يوصّفُ حالَ أعلام العترة في ذلك الزّمان تجاه قضيّة الظّلم ، وتجاه الرّغبة في القيام بتكليفِهم .
لا يُقال فإنّه عندما لم يُروَى أنّ الإمام السجّاد علي بن الحسين –عليه السلام- بايعَ ابن عمّه الإمام الرّضا الحسن بن الحسن –عليهما السّلام- ، فإنّه بذلك ضدّ إمامته ، فهذا من المُجازفَة ، ولا بُرهان عليه ، والقولُ بأنّه كان على نُصرته وبيعته هُو الأولَى لمّا كانت هذه هي أصول العترَة –عليهم السّلام- ، ولّما كانَ الإمام الحسن بن الحسن –عليهما السلام- من أهل الفضل في زمانِه ، وأنت فقد وقفت على عقيدة الإمام السجّاد علي بن الحسين –عليه السلام- في الإمامة والدّعوة في وجه الظّالمين لتحقيق العدل ورفع المظالم ، وذلك الأصلُ فأنت قد وقفتَ عليه من المباحث والفصول السابقة التي قدّمناها .
ثمّ في طريقِ إثباتِ دعوة الإمام الحسن بن الحسن –عليهما السلام- ، فإنّني قد وجدتُ البعضَ ينسبُ الإمامَ أبا العباس الحسني –عليه السلام- إلى التفرّد برواية تلك الدّعوة ، مع أنّها مأثورةٌ قبلَه من طريق العلاّمَة شيخ الشّيعة أحمد بن سهل الرّازي (ت315هـ) تقريباً ، ذكرهَا من كتابٍ وكلامٍ للإمام يحيى بن عبدالله بن الحسن بن الحسن –عليهما السلام- لهارون العباسيّ ، جاء فيه : ((ثمّ توجَّهت جَماعةٌ مِن أهلِ العِلمِ والفَضل في جَيشٍ إلى سجستان ، فتذاكَرُوا مَا حَلّ بهم مِن ابن مَروان ، فَخلعوه وبايعوا للحسَن بن الحسن، ورأّسُوا عَليهم ابن الأشعث إلى أن يأتيَهم أمرُه ، فَكان رئيسُهم غَير طائل ولا رَشيد، نَصب العداوة للحسَن قَبل مُوافَاته، فتفَرَّقَت عِند ذلك كَلِمَتُهم، وفلَّ حَدّهم، ومُزقُوا كل ممزق. فلما هُزم جَيش الطَواويس ؛ احتالوا لجدي الحسَن بن الحسن فمضى مَسمَوماً يتحسّى الحَسرَة، ويتجرّعُ الغَيظ -صلوات الله عليه-))[42] اهـ .
ثمّ قبلَهم قد ذكرَ شاهدَ تلك البيعَة الجاحظ المتوفّى سنة (255هـ) ، وأبو ذبّان فهي كنيَة عبدالملك بن مروان ، قال الجاحظ : ((ويُقال لكلّ أبخر: أبو ذبّان، وكَانت فيما زعموا كنيَة عَبد الملك بن مروان ، وأنشدُوا قول أبي حزابَة:
أمسَـــــــى أبــــو ذبّــــان مَخـــلوع الرّسن … خَلع عــــنان قَــــارِح مِن الــــحصن
وقد صَفَتْ بَيعَتُنا لابن حَسَن))[43] اهـ .
وابن حسن المقصود ؛ هُو الإمام الحسن بن الحسن –عليهما السلام- ، فليسَ في زمَنِ عبدالملك بن مروان من القائمين من بني الحسن إلاّ الحسن بن الحسن –عليهما السلام- ، وقد ذكرَ الإمام أبو العباس الحسني –عليه السلام- هذه الأبيات بلفظٍ مُقاربٍ وأتمّ ، قال : ((وفي الحسَن بن الحسَن قيل:
أبــــلِغ أبَا ذُبّــــان مُخلوعَ الرَّسَــن …. أنْ قَد مَضَــــت بَيعتُنــــا لابن الــــحسَن
ابــــن الرّســــول المصُطفى والمُــــؤتمن …. مِن خَير فِتـــيان قُريــــشٍ ويمَن
والحُجَّةُ القَائمُ في هَذا الزَّمَن))[44] اهـ
ثمّ قد رُويت دعوته –عليه السلام- ومُكاتبته لأهل العراق من طريق أبي علي المحسن بن علي التنوخي (ت384هـ) ، قال : ((وَوجدت هَذَا الْخَبَر، بِأَعْلَى وَأثبت من هذَيْن الطَّرِيقَيْنِ، حَدَّثَنَا أَبُو الْعَبَّاس مُحَمَّد بن أَحْمد الْأَثْرَم الْمُقْرِئ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَحْمد بن الرّبيع اللجمي الجرار الْكُوفِي، قَالَ: حَدَّثَنَا الْحُسَيْن بن عَليّ، يَعْنِي الْجعْفِيّ، عَن وَالِده، عَن قدامَة، عَن عبد الْملك بن عُمَيْر، قَالَ: حَدثنِي أَبُو مُصعب، قَالَ: كتب عبد الْملك إِلَى عَامله بِالْمَدِينَةِ هِشَام بن إِسْمَاعِيل: أَن حسن بن حسن، كَاتب أهل الْعرَاق، فَإِذا جَاءَك كتابي هَذَا، فَابْعَثْ إِلَيْهِ الشَّرْط، فليأتوا بِهِ. قَالَ: فَأتي بِهِ، فَسَأَلَهُ عَن شَيْء. فَقَامَ إِلَيْهِ عَليّ بن الْحُسَيْن عَلَيْهِمَا السَّلَام، فَقَالَ: يَابْنَ عَم، قل كَلِمَات الْفرج، لَا إِلَه إِلَّا الله رب السَّمَوَات السَّبع، وَرب الْعَرْش الْعَظِيم، وَالْحَمْد لله رب الْعَالمين، قَالَ: فَقَالَهَا.ثمَّ إِن الْأَمِير نظر إِلَى وَجهه، فَقَالَ: أرى وَجها قد قرف بكذبة، خلوا سَبيله فلأراجعنَّ أَمِير الْمُؤمنِينَ فِيهِ ))[45] اهـ ، وفي الرّواية تجد نُصرةً من الإمام السجّاد لابن عمّه الإمام الرّضا –عليهما السلام- على ذلك الطّغيان .وقد روى التنوخي أيضاً روايةً ؛ فيها أن ذلك الجلد كانَ في زمن الوليد بن عبدالملك بن مروان[46].
– [ الإمامان السجّاد والرّضا في ذمّة الله تعالى ، رحلةُ هداية علميّة وجهاديّة ]:
فكان استشهادُ الإمام الحسن بن الحسن –عليهما السلام- في سنة (96هـ) مسموماً ، وقد مات قبلَه الإمام السجّاد علي بن الحسين –عليهما السلام- سنة (94هـ) أو سنة (95هـ) ، ولم أقف على مصدرٍ مُستقلّ عن مصادر الإماميّة يذكُر أنّه مضى مسموماً –صلوات الله عليه- ، والإماميّة فدعواهم في استشهاد أئمّتهم عريضَة ، فإنّهم يُعكّسونَ أحوالَهم في المعرفَة ؛ فيجعلونَ أخبارَ وفاة الأئمّة شُهداء أو مقتولين دليلَ معرفَتهم بسُمّ أئمّتهم في كُتبهم التأريخية ، وقد يختلقون لأجل ذلك الرّوايات ، وإن كانَ مضى الإمام السجّاد –عليه السلام- مسموماً فإنّ مثله حقيقٌ أن يُخافَ منه ؛ كيفَ وهُو الآمر بالمعروف والنّاهي عن المُنكر جهدَه وإن لم يدعُ بالإمامَة ، كيفَ وهُو الذي صنَع -بعد رعاية الله تعالى- مثلَ الإمام شهيد الكُناسةَ زيد بن علي بن الحسين –عليهم السلام- ، ثم أنبّه النّاظر أن يتأمّل كُتب بعض الصوفيّة وُهم يترجمون لأخيار ولد الحسين –عليهم السلام- فإنّ مصادرَهم الأصيلَة هي كُتب الإماميّة ، فلا يظنّ أنّه بذلك قد ظفرَ بدليلٍ .
– [ هل كانَ الإمام السجّاد علي بن الحسين –عليه السلام- من الأئمّة الدّعاة ] :
قد وقفتَ فيما سبقَ أنّ وصول الخبر عن الدّعوات مؤثرٌ في ذكرِ الأئمّة وترتيبِهم ، فمثلاً البعض يذكُر الأئمّةَ بعد الإمام الحسن السّبط ، فيقول : زيدٌ ، ثمّ يحيى بن زيد ، ثمّ الإمام النّفس الزكيّة ، والبعضُ قد يقول : الرّضا الحسن بن الحسن ، ثمّ زيدٌ ، ثمّ يحيى بن زيد ، وقد وقفتَ أنّ ذلك ليس مَعه إسقاطٌ فضلٍ للإمام الحسن بن الحسن –عليهما السلام- فالجميعُ على ُموالاته وعلى أنّه من أهل الفضل ، إلاّ أنّ المقام بُلوغ النّقل وثبوت حصول الدّعوة ، وهذا فقد يتفاوت فيه النّاس ، وكذلك أنتَ قد تجدُ انّ البعض قد يُفيدُ قوله أنّ الإمام علي بن الحسين –عليهما السلام- إمامٌ بعد الإمام الحسين السّبط –عليه السلام- ، وهذا فمحلّه أنّه قد ثبتَ للمثبِت أنّه قام ودَعا ، وأنتَ قد وقفتَ في هذا المبحث وهذه لسّيرة أنّ ذلك مُحتملٌ حصولُه مِنْ مِثلِ الإمام السجّاد –عليه السلام- لمّا كانت طريقته غير مُداهنةٍ للأمويين جهدَه ، ولمّا كان أخُذَ مُكبّلاً ، وكانتَ خطاباته في الأمّة مُسْتنهِضَة ، فهذا طريقُ إثبات إمامته عند من يُبّت إمامته من الزيدية ، فهُو لمكان الدّعوة لا لمكان نصوصٍ أو وصايا ، وسادات بني الحسن والحسين فقد ثبّتَ الله تعالى فيهم الإمامة إذا اكتسبوُا شرائط الإمامة ، فهم أئمّة من الله ، بمعنى أنّ الله حكم أنّهم أهلٌ للإمامَة وهُم على هذه الصّفة ، وهذا إنمّا أتينا به في هذه السّيرة كأقصى ما قد يُذهَبُ إليه من حال من أثبتَ إمامته –عليه السلام- وفي حال مَنْ لم يذكُره في الأئمّة ، كما هُو حالُ ابن عمّه الإمام الرّضا الحسن بن الحسن –عليهم السلام- ، ثمّ أنتَ قد فقهت أصل في العترة في مثل هذا ، وهُو أنّ ثقَل ذلك يخصّ المكلّفين في زمانِهما –عليهما السلام- يبذلون أنفسهم لسادات العترة في النّصرة ومتى بلَغهم قيامُهم فتكليفهم النّصرة ، فأمّا مَنْ بَعْدُ فهم يثبتون ما يثبتُه النّقلُ ثمّ لا يسعُ إنكارُ إمامَة مَن قد أثبتَ النّقلُ إمامته ، ومن لم يَثبُت لهُ في النّقل فإنّه لا يجوزُ له الخروج عن الولاء وذلك الشّخص من العترة على صفات الفضل ، والجميعُ فأهل فضل ، الإمامان السجّاد والرّضا وآل محمّد على مُوالاتهما ، وكذلك زيد الأبلج ابن الإمام الحسن السبط –عليهم السلام- فإنّ كثيراً من السيرة حوله محلّ نظرٍ كبير ، والحمدلله .
نعم! فهذا مبحثٌ أنتَ قد وقفتَ فيه على روح الأمر بالمعروف والنّهي عن المُنكر عند الإمام علي بن الحسين –عليهما السلام- ، وأنّ سيرته –عليه السلام- مُخالفة على ما تدّعيه فيه وفي ذريّته الرّافضة من التقيّة وتحريم الخروج .
وكذلك وقفتَ من خلال هذا المبحث على حال أعلام العترة في ذلك الزّمان ، وأنهم كيانٌ واحد وطريقة واحدة ، وأنّها على خلافِ ما ينسجهُ الراّفضة من التّفريق بينَ سادات بني الحسن والحسين لأنّ فكرهم لا يستقيمُ إلاّ بذلك التفريق ، والله المُستعان ، ومن المواقف في سيرة الإمام علي بن الحسين –عليهما السلام- ، قال بكر بن عبدالملك ابن الأحنف : ((كُنْتُ عِنْدَ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ -عَلَيْهِمَا السَّلاَمُ-، فَكَانَ إِذَا صَلَّى الْفَجْرَ لَمْ يَتَكَلَّمْ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ فَجَاءُوْهُ يَوْمَ وُلِدَ زَيْدٌ، فَبَشَّرُوْهُ بَعْدَ صَلاَةِ الْفَجْرِ، قَالَ: وَالْتَفَتَ إِلَى أَصْحَابِهِ، فَقَالَ: أَيُّ شَيءٍ تَرَوْنَ أَنْ أُسَمِّيَ هَذَا الْمَوْلُوْدَ؟ قَالَ: فَقَالَ كُلُّ رَجُلٍ مِنْهُمْ: سَمِّهِ كَذَا. قَالَ: فَقَالَ: يَا غُلاَمُ عَلَيَّ بِالْمَصْحَفِ فَوَضَعَهُ فِيْ حِجْرِهِ ثُمَّ فَتَحَهُ فَنَظَرَ إِلَى أَوَّلِ حَرْفٍ فِيْ الْوَرَقَةِ فَإِذَا فِيْهِ: ((فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْرًا عَظِيمًا)) ، ثُمَّ أَطْبَقَهُ، ثُمَّ فَتَحَهُ، فَنَظَرَ فَإِذَا فِيْ أَوَّلِ وَرَقَةٍ: ((إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ)) ، ثُمَّ قَالَ: هُوَ وَاللَّهِ زَيْدٌ، فَسُمِّيَ زَيْداً))[47] ، ومن ذلك أنّ الإمام شيخ آل الرّسول عبدالله بن الحسن بن الحسن –عليهم السلام- كان من المُلازمين لخاله علي بن الحسين ، إضافة إلى تتلمذه على أبيه الإمام الرضا الحسن بن الحسن –عليهما السلام- ، وكذلك أخذ الإمام الصّادق جعفر بن محمد عن جده علي بن الحسين –عليهم السلام- ، فكانوا مشيخةً واحدةً ، وطريقةً واحداً وفكراً واحداً ، وقد مرّ معك قول الإمام الصّادق جعفر بن محمد –عليهما السلام- لعمّه عبدالله بن الحسن لأنّ المذهب الواحد وأنّه يُكذبُ عليه من الرّافضة ، والحمدلله .
وكتبه الكاظم الزيدي ، غفر الله له ولوالديه ، وللمؤمنين .
يوم الاثنين الموافق 13 شعبان 1441هـ
[1] الكافي:1/280.
[2] الفصول العشرة:74.
[3] تاريخ الطبري:5/446.
[4] الأمالي الخميسية.
[5] المصابيح في السيرة.
[6] مقاتل الطالبيين:119.
[7] مقتل الحسين:206.
[8] الإرشاد:2/116.
[9] مقتل الحسين للخوارزمي:2/76.
[10] رسائل في الغيبة ، الرسالة الثالثة في الغيبة للشيخ المفيد:3/3.
[11] الاعتبار وسلوة العارفين .
[12] تاريخ مدينة دمشق:41/386.
[13] الأمالي الخميسية .
[14] مجموع كتب ورسائل الإمام القاسم بن إبراهيم .
[15] الأمالي الخميسية .
[16] الاحتجاج:315.
[17] الكافي:5/22.
[18]مرآة العقول:18/347.
[19] الكافي:5/22.
[20] الصحيفة السجادية.
[21] الكافي:2/243.
[22] أخبار الإمام زيد بن علي ، لأبي مخنف: مخطوط ، المحيط بأصول الإمامة: مخطوط.
[23] حلية الأولياء:3/140.
[24] الفصول العشرة:74.
[25] اللهوف على قتلى الطفوف:116.
[26] الثقات لابن حبان:2/310.
[27] أنساب الأشراف:3/282.
[28] شرح نهج البلاغة:20/124.
[29] شرح نهج البلاغة:4/104.
[30] تاريخ مدينة دمشق:13/68.
[31] تيسير المطالب في أمالي أبي طالب.
[32] تاريخ مينة دمشق:41/396.
[33] أمالي أحمد بن عيسى بن زيد .
[34] تاريخ مدينة دمشق:40/278.
[35] فرحة الغري:73.
[36] الخرائج والجرائح:1/256.
[37] تاريخ مدينة دمشق:13/65.
[38] تاريخ مدينة دمشق:41/365.
[39] تاريخ مدينة دمشق:41/373.
[40] الخصال:107.
[41] شواهد التنزيل:2/156.
[42] أخبار فخ ويحيى بن عبدالله.
[43] الحيوان:3/181.
[44] المصابيح في السيرة .
[45] الفرج بعد الشدة:1/196.
[46] الفرج بعد الشدة:1/194.
[47] الأمالي الاثنينية .