قال أمير المؤمنين -عليه السلام- يصفُ أئمة العترة في (نهج البلاغة) : ((أَلَا بِأَبِي وَ أُمِّي هُمْ مِنْ عِدَّةٍ أَسْمَاؤُهُمْ فِي السَّمَاءِ مَعْرُوفَةٌ وَ فِي الْأَرْضِ مَجْهُولَةٌ))؛ هل يدلّ ذلك على قول الإماميّة من تلك الأسماء؟!
والجَواب:
أنّ هذا النصّ على أمير المؤمنين -عليه السلام- على الضدّ من عقيدة الإماميّة؛ بل هُو ينقضُ قولَهم؛ ونبيّن ذلك من خلال عدّة استدلالات:
– الاستدلال الأوّل: أنّ الإماميّة تحتجّ على الزيديّة بأنْ كيفَ يُوصي الله العباد بعد الإمام الحسين -عليهم السلام- إلى مجهولين من عُموم العترة، غير مُعيّنين منصوصٍ عليهِم؛ فكيف ستتمسّكُ الأمّة بالإمام، وكيف سيعرفُ النّاس ذلك الإمام واستحقاقه إن لم يكُن نصُّ عليه من الله تعالى وإعلامٌ باسمِه؛ فالأئمّة عندنا -أي الإماميّة- منصوصٌ عليهم قبل خلق الخليقَة منصوصٌ عليهم نصوصًا متواترًة نرويها من طريق خمسة وعشرينَ صحابيًّا على الأقل جمعها الخزّاز القمّي في (كفاية الأثر) ، وهذه سلاسل رواياتنا فيها العامّي والخاصّي والواقفي والزيدي وربما الخوارج يروون النصوص في أعداد وأسماء أئمتنا، ومن حجّتنا كإماميّة أنّ أخبار المحدّثين في الاثني عشر خليفَة قد جاءت بالأسماء إلى جانب الأعداد إلاّ أنّ الأمويّة ومَنْ عاندَ تعمّدوا إلى إخفائها، ومن حجّتنا كإماميّة أنّ أصل تقيّة أئمّة قبل الغيبة وغيبَة الثّاني عشر أنّ سلاطين الجور يعلمون تلك النصوص ويترصّدون الأئّمة، لا سيّما الثّاني عشر يعلمونه وأحواله ويتتبّعونه لذلك هُو خائفٌ غائبٌ ولو لم نقُل هذا -كإماميّة- فأًصبح لا معنى لتقيتهم، ولا لغيبتِه؛ لدرجَة أنّ الدوّل المتقدّمة اليوم كأمـ ريكا ونحوها تكتب التقارير بحثًا عن الثاني عشر.
نعم؛ فأينَ أنّ مَنْ هذا حالُه أسماؤهم في الأرض مجهولَة؟! وكيف ستكون أسماء مَنْ نصَّ عليهم الشّرع لأهل الأرض مجهولة والشرع يحييها بهيمنته وقطعيته؟! إنّ هذا لا يُقال إلاّ في حقّ الزيديّة ودعواها أنّ الإمامة بالصّفة فيمَن قام ودعا من ذريّة الحسن والحسين -عليهم السلام- فكانَ بعضهم يقوم ويدعو ويجهلُ إمامته واستحقاقه جماعةٌ وجماعاتٌ في خراسان والعراق لمّا أنّ مناط العلم هُو الأحوال المتغيّرة التي هي الدّعوة التي لا يعلَمُ ذلك الخراساني أو العراقي أو غيرهما هل قد كانت أم لم تُكن من ذريّة الحسن أو الحسين -عليهم السلام- فلا تقومُ عليه الحجّة في إجابة إلاّ متى قرعَت مسامعه تلك الدّعوة، وبعض الدّعاة يقومُ ويدعو في الأمّة ثمّ لا يجدُ ناصرًا أو تُقمَعُ دعوتُه من الظّلمة في مهدها أو رّما يُقتل في قلّةٍ ودعوته بعدُ لم تتجاوز بلدتَه؛ وهو في هذا كلّه لم تُعلَم إمامته ولا استحقاقه ولا جهاده ولم تُدوّن له سيرةٌ في دعوةٍ أو قيامٍ لغمورِ خبره في أصقاع الأرض يجتهدُ إحياء السنّة وإماتة البدعة والقيام بالأمر بالمعروف والنّهي عن المُنكر، وهُو فمُستكملُ الشّرائط؛ وحاله عند الاه وملائكته معلوم مشكور.
فأمّا من كان حالُ معرفته هو طلبُ النّصوص عليه؛ فإنّ الحال غير مرتهنُ لذلك الخراساني أو العراقي بأن تقرع مسامعه دعوة أو قد لا تكون دعوةٌ في الزّمان؛ فإنّ طلبَه للنّصوص يُغنيه عن أحوال عدم المعرفة فيمن حال ثبوت إمامتهم هي النّظر في الصّفات واكتمال الشّرائط والقيام بالدّعوة، ألا ترى لو أنّ الخراساني أو الشّامي قرعَ مسمعه دعوة فاطميّ لطلبَ -بناءً على أصل النصوص وتعريف الشريعة بالأسماء وإخراجها عن حيّز الجهالة- فإنّه كان يطلبُ نصًّا على ذلك القائم من الشّرع؛ لأنّ القرآن بين يديّ الشّامي والعراقي والخراساني وما كانوا سيجدونَه لا يدلّ إلاّ على أئمّة منصوصٍ عليهم -على قودِ قول الإمامية- فأينَ ذلك كلّه وجهالة أهل الأرض لمن هُو منصوصٌ عليهم؛ وينضمّ إلى ما سبق من دلالة القرآن عند الإمامية تلك الأخبار التي يروونها بكثرةٍ عن مئاتٍ من الرّواة الشيعة وغيرهم في أسماء الأئمة الاثني عشر!
فقولُ أمير المؤمنين -عليه السلام- : ((أَسْمَاؤُهُمْ فِي السَّمَاءِ مَعْرُوفَةٌ وَ فِي الْأَرْضِ مَجْهُولَةٌ))، فهُو في أنّ الله تعالى قد علِمَ استحقاق هؤلاء الأئمّة الدّعاة من بني فاطمة سادات بني الحسن والحسين -عليهم السلام-، وعلِمَ فضلهم، وأعلمَ ملائكتَه، وإن كان أكثر أهل الأرض جهلوا استحقاقهم، واستكمال شرائط الفضل فيهم.
فالنصّ من نهج البلاغة يضدّ أن يكون جميع طريق الإمامة هو النصّ على عين كلّ إمام؛ وإلاّ لكانوا لأهل الأرض معلومين غي مجهولين؛ لأنّ النصّ الشّرعي قد أخرجهم من حيّز الجهالة بالعين إلى العلم بها. فإن قيل: فالحسنَان من العدّة، وهما منصوصٌ عليهما عندكم؛ فأصبح حالهما عدم الجهالة. فنقول: إنّ الخطاب متوّجه لمَن لم يرَهم أمير المؤمنين -عليه السلام- من ذريّته؛ لمّا كان في ظاهر الكلام يتكلّم في ملاحم مستقبليّة؛ بل لو قلنا إنّهما داخلان في العدّة؛ فإنّ الخطاب لهما دخل في حالَ جهالَة الأسماء العَليَّة الكريمَة من باب توجّه الخطاب للكثرَة، كما وجّه الله الخطاب للملائكة وأمرهم بالسّجود واستثنى منهم إبليس لمّا طغى واستكبر؛ فلم يمنعُه حاله وهو من الجن أن يشمله خطاب الأكثريّة -خطاب الملائكة-.
– الاستدلال الثّاني: أنّ العدّة إخبارٌ عن عددٍ قلّ العدد أم كثَر، ولا يوجد قيدُ في اللغة يُفيدُ أنّ العِدّة قليلٌ من كثيرٌ؛ وقد قال الله تعالى: (( فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ))؛ فسواء كانَت العِدَّةُ يومًا من شهر رمضان يلزمُه قضاؤه فيما بعد، أو كانت العدّة هي كلّ الشّهر يقضيه فيما بعد؛ فاليوم من التّسعة وعشرين يومًا عِدّة، والتسعة والعشرون من التسعة وعشرين يومًا عدّة، وقال تعالى: ((فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ))؛ على أنّه لو كانت العِدّة بهذا المعنى -القليل من الكثير- فأئمّة العترة في مائة أو مئتين أو أقلّ أم أكثر فإنّهم عدّة إلى جانب هذه الأمّة التي تُعدّد بالمليارات بعد المليارات على مدار الأزمنة من زمن سيدنا رسول الله -صلوات الله عليه وعلى آله-، وهذا فيحقّق حال الزيديّة؛ وأصل هذا الاستدلال بيان؛ ثم معه توجيه للأقلين عددا الذين ذكرهم أمير المؤمنين -عليه السلام- في موضع آخر من النهج لما قال لكميل: ((اللهم بلَى، لا تخلو الأرضُ من قائمٍ للهِ بحجةٍ إما ظاهرًا مشهورًا، وإما خائفًا مغمورًا؛ لئلا تبطُلَ حججُ اللهِ وبيّناتُه، وكم وأين أولئك؟! أولئك واللهِ هم الأقلُّون عددًا، والأعظمون عند الله قدرًا، بهم يدفع اللهُ عن حججِه؛ حتى يؤدوها إلى نظرائِهم؛ ويزرعوها في قلوب أشباهِهم)) [نهج البلاغة]؛ فالأقلون عددا معنى يدخل تحته المائة والمائتين والأكثر من أئمة العترة في قُبال مليارات الناس على مدار الأزمان؛ ثم تلك القلة لا يدخل تحتها إلا القائمون يصفتها وحقها وهم القائمون لله بالحجة في العباد؛ ولن يقيم الحجة غائب من اثني عشر قرنا؛ فالظاهر من والخائف من العترة من تلك القلّة في الأمة كلهم حاضرون غير غائبين معلومو الأمكنة؛ يعايشهم الناس ويعايشونهم؛ والظهور والخوف معنيان لاشتهار الدعوة والحال ولغمور العاملين من أئمة الدعوة ممن لم تتهيأ لهم ظروف الخروج؛ أو أئمة العلم -العلماء- يكون حالهم مقموعا في نشرهم للدين ومه ذلك هم حاضرون يجهدون أنفسهم نشر الكتاب والسنة وقول سلفهم؛ يؤدون أمانة العلم وحفظ الإجماعات والمنهج وأهمية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إلى من بعدهم من نظرائهم وهم أولئك الخلف من آل محمد الذين سيرعاهم الله بتوفيقه كما رعى أسلافهم؛ فأما على شرط الإمامية فإن الله هو الذي يودع العلوم وآلة الإمامة بالمعاجز وبخبر السماء إلى أئمتهم لا أن ذلك من فعل الأئمة إلى الأئمة؛ فأئمتهم من ولادته لا يجعلون أصحاب علم لدني؛ وأين ذلك وقول أمير المؤمنين -عليه السلام-.
– الاستدلال الثالث: أنّ أمير المؤمنين -عليه السلام- قد أخبرَ ابتداءً وتأصيلًا بطريق معرفة الإمامة بالصفات، فقال: ((أيُّهَا النَّاسُ إِنَّ أَحَقَّ النَّاسِ بِهَذَا الْأَمْرِ أَقْوَاهُمْ عَلَيْهِ وَ أَعْلَمُهُمْ بِأَمْرِ اللَّهِ فِيهِ فَإِنْ شَغَبَ شَاغِبٌ اسْتُعْتِبَ فَإِنْ أَبَى قُوتِلَ وَ لَعَمْرِي لَئِنْ كَانَتِ الْإِمَامَةُ لَا تَنْعَقِدُ حَتَّى يَحْضُرَهَا عَامَّةُ النَّاسِ فَمَا إِلَى ذَلِكَ سَبِيلٌ وَ لَكِنْ أَهْلُهَا يَحْكُمُونَ عَلَى مَنْ غَابَ عَنْهَا ثُمَّ لَيْسَ لِلشَّاهِدِ أَنْ يَرْجِعَ وَ لَا لِلْغَائِبِ أَنْ يَخْتَارَ)) [نهج البلاغة]؛ وهذا فينطبقُ على طريق الإمامة بالدعوة لمستكمل شرائط الإمامة؛ وذلك بعد أن أخبر -عليه السلام- أنّ معدن الإمامة هم بنو فاطمة كما خبر الثقلين : ((إِنَّ الْأَئِمَّةَ مِنْ قُرَيْشٍ غُرِسُوا فِي هَذَا الْبَطْنِ مِنْ هَاشِمٍ لَا تَصْلُحُ عَلَى سِوَاهُمْ وَ لَا تَصْلُحُ الْوُلَاةُ مِنْ غَيْرِهِمْ)) [نهج البلاغة]؛ فهذا مع ما مرّ معك قطعةٌ واحدةٌ في المعرفة تتناول الإمامة بالدّعوة من مستكمل الصّفات والشّرائط، والتي معها الجهالة بعين الإمام قبل الدّعوة، ثمّ جهالة أهل الأرض بدعوة الدّاعي من طريق الشرع حتّى تقرع مسامعهم تلك الدّعوة فيتحقّق الوجوب عليهم في الإجابة، ثمّ هي قطعةٌ وهديٌّ في المعرفة يضدُّ الإمامة بالنّصوص.
فإن قيل: فأنتم تعتقدون أنّ للإمامة طريقان، النصّ في الثلاثة، والدّعوة من بعد الإمام الحسين -عليهم السلام-؛ فيلزمُ مما ذكرتموه عن أمير النؤمنين -علبه السلام- سقوطُ طريق النص. قلنا: لا يلزم ذلك؛ لأنّ لكلّ طريقٍ خطابُه وبيانُه؛ فعندما يكون الكلام على طريق النّص فإنّ الكلام يأتي في إقامة الحجة بالنصوص، وإذا كان الكلام على طريق الدّعوة فإنّ الكلام يأتي في إقامة الحجّة بالصّفات؛ ومقام أمير المؤمنين -عليه السلام- في البيان المقام الثّاني؛ وعندما يكون المقام المقام الأوّل تجده يحتجّ عليهم بالنصوص على إمامته بخبر الغدير وبما أقامه على أهل الشورى بغد مقتل عمر؛ فتتأمّل ذلك، ألا ترى كيف قال الإمام زين العابدين -عليه السلام- وهو يتكلّم عن المقام الثّاني وهو إمامة الدّعوة من مستكمل الشرائط، فقال بما رواه الحاكم الحسكاني الحنفي، وقد سأله أبو حمزة الثمالي عن السّابق بالخيرات مَنْ هُم؟! فقال -عليه السلام- : ((مَنْ شَهَرَ سَيفَه وَ دَعَا إلى سَبيلِ ربّه)) [شواهد التّنزيل:2/156]، وكذلك أجاب الإمام الباقر -عليه السلام- من داخل تراث الإمامية -من رواية الشيخ الصدوق- عندما سئل -عليه السلام- عن السابق بالخيرات؛ فأشار إلى الدّعوة كطريقٍ : ((مَنْ دَعا والله إلى سبيل ربه ، وأمرَ بالمَعروف ، ونَهى عَن المنكر ، ولَم يَكُن للمُضلّين عَضُدا ، ولا للخائنين خصيما ، ولم يَرضَ بحُكم الفَاسِقين إلاّ مَنْ خَاف على نفسه ودينِه ولَم يَجِد أعوانًا)) . [معاني الأخبَار:105]، وأيضًا هو جواب الإمام زيد بن علي -عليهما السلام- من رواية الحاكمي الحسكاني، في التعريف بالسابق بالخيرات، قال: ((الشاهر سيفه يدعو إلى سبيل ربه)) [شواهد التّنزيل:2/157].
– فائدةٌ: قال الإمام المؤيد بالله يحيى بن حمزة -عليه السلام- في بيان قول أمير المؤمنين -عليه السلام- : ((أسماؤهم في السماء معروفة)) : ((وغرضه أن أسماءهم عند الله معروفة لا يلتبسون بغيرهم، ولا لأحد منزلة مثل منزلتهم)) [الديباج الوضيء]، فالمعنى أنّ أسماء أولئك الأئمّة عند الله؛ أي عند أهل السماء من الملائكة الكرام؛ فنسبة الأمر إلى الله وإن كان العامل هم الملائكة معلومٌ من القرآن؛ قال الله تعالى: ((إنّا نحن نزّلنا الذّكر))؛ فنسبَ الإنزال للقرآن إليه وإن كان العامِل بالإنزال هو جبرئيل -عليه السلام-؛ فكذلك قول الإمام -عليه السلام- : ((وغرضه أن أسماءهم عند الله معروفة لا يلتبسون بغيرهم))؛ فتقدير الكلام: وغرض أمير المؤمنين أن تلك الأسماء عند رسل الله من الملائكة معروفة، وأنّهم بالفضل ذلك والاستحقاق، والجهاد في سبيل الله، مُميّزون عن غيرهم بلا التباس في استحقاق الكرامة والفضل؛ على أنّنا لو حملنا الكلام على ظاهره -أيضًا- فهو في معنى: أنّ أسماءهم عند الله معروفة بالفضل لا يلتبسُ فضلُهم بفضل غيرهم؛ وفيه إخبارٌ للأمّة بأنّ أحدًا لا يضاهيهم من أهل الفضل عند الله تعالى؛ فأمّا أن يفهم سطحيّ أنّ الله يعلمُ تلك الأسماء؛ فذلك من تحصيل الحاصل، والإمامُ أعزّ من هكذا إسقاطٍ وفهمٍ.
وفّقكم الله