من الذاكرة

من الذاكرة 1

منَ الذّاكرَة (1)

كانَ أحَدُ الإخوَة الأفاضِل ، أصبحَ زيديّاً ، وكانت زيديّته بقنَاعة ، وله أبحاثٌ مُختصرَة -أيّام المنتديات- ؛ فاستدركتُ بعد ذلك أمراً نفسيّاً -وكلامِي بالمَعنى- ، فقلتُ له : لعلّك تجدُ المُستبصِرين المتحوّلين إلى الإماميّة ، إذا تحوّل إلى قولهم الشّخص ، احتفوا به ، وطلبوا منُه أن يكتُب الكتابات في مذهبه الضّال السّابق ، ومكّنوهُ عبَاءَةً وِمنبراً ، وحيّا الله سماحَة السيّد أو الشّيخ ؛ فيرَى ذلك الشّخص حظوةً مُجتمعيّة بعد أن لم يكُن يراها ، فتعُجبُه العباءَة والعِمَامة ، ثمّ قد يكونُ مديرَ مكتب المَرجع في بلادِه ، ثمّ تُقرّر له المرجعيةٌ مبلغاً منَ المَال بعُنوان الدّعوة؛ فيبدأ ذلك في بلادِه ، ليس هذا حال كلِّهم ، لكن هُو واقعٌ . الزيدية في ثقافتهم المجتمعيّة اليوم لن تِجَد هذا منهم ، إلاّ جانب أخوّة في الله . الذي أريدُه من نفسِكَ أن تؤمنَ أنّ المنّة للحقّ علينَا ، وليسَ لنا منّةٌ على الحقّ ، وأنّنا ننفعُ أنفُسَنا أو نضرّها بقراراتنا . قال : يا سيدي ، هذا هُو الذي أريدُه ، فقد تعوّدت أن أكون وحيداً ، لا أريدُ أحداً أن يغرّني بالمظاهر ، حتّى أنتَ لا تُقل لي كلمَة “أستاذِي” . كان آخر العهد به ، وبإخوةٍ آخَرين في الخَير ، مُنذُ سنوَات

من الذاكرة

من الذاكرة 1

منَ الذّاكرَة (1) :

في مرحلَة المُراهقَة العُمُريّة ، مع تعلّمي قيادَة السّيارة ، في مرحلة الثّاني المتوسّط تقريباً ، وكُنت لا أريدُ أن أستقرّ في المنزل . دخل السيّد الوالدُ -رحمه الله- ومعه مخطوط مصوّر (شرح الثلاثين المسألة) للعلامة ابن حابس رحمه الله ، قال : اكُتبه أنتَ وأخوك . عِين من خطّ المَخطوط ، وعين من حجم المخطوط ، وعين من الوالد ، وعين من أخي ، وهذا الكتاب كلّه سنكتبُه !. وكان له هيبَة -رحمه الله- التي لا نستطيع إلاّ : ابشر ، وحاضر ، وتمّ . قال : مطلوب منكم عشر صفحات يومياً ، نسقّوا مع بعضكم . بدأنا العمَل ، وكانَت نفسي خلفَ زملائي من الشّباب في الخارج ، الآن يُمضون الأوقات الجيّدة ، وأنا أكتُب ، وما (يمديني) أخلّص مقرّر الصّفحات إلاّ والوقت متأخّر ، لذلك كُنت أسابق الزّمن أبكّر في الكتابة ، حتّى إذا قرّبنا من تمام العَمل ، وأنفاسنا تتسابق إلى صفحة الخاتمَة ، فتمّينا العمل -بحمدالله- ، فقلنا الآن يتحرّر وقتنا ، وهي يومين ، ونحن على الغداء ، وإذا بالسيد الوالد معه كيس كبير فيه مخطوط مصوّر ، والأفكار بدأت تلعب فيني ، هل هذا مخطوط جديد ، الله أعلم كيف تغدّيت وقتها ، وبعد الغدا ، قال : هذا مخطوط (ينابيع النّصيحة) للأمير الحُسين عليه السلام ، ومعنا شهر عمَل ، وبحمد الله تمّ العمل ، لكن كنّا أسرَع في الكتابة ، وفي مهارة الوورد ، وفي فكّ كلمات المخطوط ، وفي التّنسيق ، ونعرف فواصل الكتاب .

كبرنا ، وعلمنا أنّ الوالدَ رحمه الله ، قد أهدانا الوقت الحقيقيّ ، وأهدانا معارف جديدَة ، في قراءة مخطوط ، في فهم كلامٍ ، في مهارة استعمال برامج الحاسب الآلي والكتابة السّريعة ، في حفظ الوقت ، وعرفنا أنّنا نستطيع أن نوفّق بين وقت نُفيد به أنفسنا ، وغيرنا ، وبين أوقات الترويح عن النّفس . الآن ، وأبنائي في نفس عُمري السّابق ، وجدتُ أن صرامَتي عليهم ليسَت كصرامة والدي عليَّ ، لديّ شفقَة ورحمَة أن أكلّفهم بمثل ذلك أو قريبٍ منه ، ذلك يعود إلى ثقافة مجتمعيّة جديدَة ، ولا بدّ مع ذلك أن نتكامل مع أبنائنا رُقيّهم جهدنا ، فهُم رأس المَال ، ونحن فقط نستصغرُ قدراتهم ، وإلاّ فقدرتهم أعلى وأكبر ، لو قد كلّفناهم فقط ، بعناية واهتمام ، وغالباً سيلوموننا عندما يكبرون ونحن لم نقّدم لهم شيئاً في مرحلة استقبالهم ، وعنفوان الطلب والقوّة عندهم . أختمُ : بأنّ كلا المخطوطين ، تفاجئنا فيما بعد بأنّ جهة طباعيّة قد انتهت منها صفّاً وإخراجاً .

أطلتُ ، وهي مُشاركَة وجدانيّة مع إخوةٍ وأحبّةٍ …

اللهمّ صلّ وسلّم على محمّد وعلى آل محمّد …

من الذاكرة, بقلم الكاظم الزيدي

من الذاكرة 2

منَ الذّاكرَة (2) :

كُنتُ في مرحلَة الطّلب (أيّام الجامعَة) ، أتشهّى نقد الزيدية ، كُنت أتساءل مَع نفسيّ ، لماذا أنَا زيديّ ، هو فكرٌ عن الآباء والأجداد ، كان هُناك صوتٌ مُجتمعيّ علميّ في ذلك الوقت له ضجيجٌ مُرتفعٌ ، وهُو أنّك لو وُلِدَت في بيئةٍ أشعريّةٍ ، أو إماميّةٍ ، أو ماتريديّةٍ لكُنتَ كذلك . وكُنت قبلها وقفتُ على مُنتدياتٍ تثيرُ الشّبه ضدّ الزيديّة ، فقُلت في نفسي (حَاكِمَاً وقاضياً وأستعدّ للجَلد) : كُلّ هذا عندنا ، ويكُتب أهل الشُّبه بأرقام الصّفحات والطّبعات !.

وفعلاً بدأت أجمع الشّبهات حول الزيديّة من كُل رابطٍ وصفحَة ، شُبهاتٌ يطرحُها إماميّةٌ ، وشُبهاتٌ يطرحُها سُنيّةٌ ، وشُبهاتٌ لأشخاصٍ لهم ثقافتهم ورؤاهُم التي تُخالف سائدَ الزيدية وهُم ينتسبون للزيدية ، وكُنت أناقشَ بعض الأصدقاء في (سكن العُزوبيّة) ، وكانَ الأكثريّة مُلتفتين بصمت ومُتابعة لطرحي ، وهي كانت تشكيكية في غالبَها ، وكُنت أتجنّبُ من لا بصيرَة له ، حتّى قال أحد الإخوة : أفكارُك ملوثّة أو موبُوءة (من الوبَاء) ، انتبه لنفسك . وهذا الكلام كلّه آتي به بالمَعنى .

كُنت أصرفُ المبلغ الذي يُصرف لي كمُكافئة جامعيّة في شراء الكُتب ، والسّفر إلى معارض الكتاب ، وكُنت أشتري كُتب غير الزيدية أكثر من شرائي لكُتب الأصحاب ، حتّى قال لي أحد الإخوة مُستغرباً : (ما كان دفعت فيها ريال واحد ، يقصد ُكتب المخالفين) ، ثمّ كانت نفسي تميل أن يكون الحقّ مع الإماميّة ، ظهَر لي فيما بعد أنّه اغترارٌ بحال الكثرَة ، والعاطفَة مع ذلك الظّهور الذي خدمتهُم فيه الدّولة الحديثة والإمكانات الماديّة لديهم ، وكذلك الرّواديد واللطميّات التي كانت تُخاطب المشاعر ، فقرأتُ للإماميّة أكثر من قراءتي للزيديّة ، حتّى اختلفَت واشتبهَت عليّ السّبُل حقّاً ، وكُنت في حالةٍ نفسيّةٍ يُرثى لها ، حتّى تأثّر مُستواي الجامعي الهندسيّ من كثرة الاهتمام والتتبّع .

كُنا في أيّام الإجازات والعُطلات ، نُسافر إلى الأهل شهراً أو أشهراً للإجازة ، وكان والدي -رحمه الله- من أبرز تلامذَة إمام وقته شيخ العترة والإسلام مجدالدّين بن محمّد المؤيّدي (ع) ، وكان -الوالد- سابقاً يُريدُنا على العلم ، وكُنا لا نتسايرُ معه ذلك التسايُر ، حتّى لاحظ منّي تدريجيّاً طرح الأسئلة بعد الأسئلة ، وهُو كان يُجيب ، حتّلى يتعالى صوتُه (فقد كُنت أمثّل الاتجاه المُعاكس) ، ثمّ أسكتُ خوفاً . كُلّ هذا وكُنت أيضاً في داخلي مُحمّلاً باحتمالٍ وهُو أنّ الزيديّة أيضاً قد تكون على صواب ؟!. هل تفهمُ من الإنصاف أنّه لكي يُقال لك مُنصفٌ وباحثٌ ضرورة أن يكون فكرُك خاطئاً ؟!.

عزمتُ أن أرتّب رحلتي الفكريّة ، فلم أستطع تجاوُز خبر الثّقلين البتّة ، لأنّ أعظم المُخالفات المنهجيّة أن تقفزَ على قول الله تعالى وقولِ رسوله -صلوات الله عليه وعلى آله- ، فأصبحتُ أبحثُ عَن العترَة ، وكُنت أنظُر إلى سادات بني الحسن والحسين (ع) في القرون الثّلاثة الأولَى ، ولا ألتفتُ لمَن بعدَهم ، باعتبار أنّ المذاهب كثرُت وانتشرت بعد ذلك أكثر في النّاس ، وتباعد النّاس أكثَر وأكثَر ، فنظرتُ فإذا سادات بني الحسن والحسنين في الحجاز زيديّة ، ثمّ نظرتُ إليهم في المغرب فوجدتهم زيديّة ، ثمّ نظرتُ إلى الكوفة فإذا هُم زيديّة ، ثم نظرتُ إلى اليمامة فوجدتُهم زيديّة ، ثمّ نظرتُ إلى اليمن فوجدتُهم زيديّة ، ثمّ نظرتُ إلى المشرق الجيل والدّيلم ونيسابور والرّي فوجدتُهم زيديّة ، وكُنت في بحثي لا أعتمدُ كُتب الزيديّة فقط ، بل المصادر المُختلفَة ، استوقتني تلك النتيجة كثيراً ، النّاصر الحُسيني في القرن الثّالث في الجيل والدّيلم ، والهادي إلى الحق الحسني في نفس القرن في اليمَن ، وكلاهما منهجٌ واحدٌ زيديٌّ ولم يلتقيا ، وكلاهما عن آبائه أخذَ علومه ، وأعلامٌ آخرون .

عزمتُ أن أعودَ أنظُر إلى المسائل العقلية مُجرّدَة عن الرّجال ، فكان التوحيد والعَدل ، ثمّ عزمتُ على أن أتتبّع فكر الإماميّة ، أصولَه مُنتهاه ، فإذا هُو فكرٌ بُني على كمّ هائل حجمه آلاف الرّوايات من الضّعفَة والمجاهيل ، صدقاً أشبّهُ كأنّ مَاكنةً طباعيّة حديثة بأعلى السّرعات في الثّانية الواحدَة تُفرزُ من الرّوايات المختلقة كانت بعد عصر الغيبة أفرزَت مذهباً كاملاً ، حتّى قال الشيخ الطوسي في القرن الخامس أنّه ما يكادُ يوجدٌ خبرٌ لهم إلاّ وبإزائه ما يُضادّه ، والكلّ باسم أئمّة العترة ، ثمّ وقفتُ كثيراً عند قاعدة بنائيّةٍ قديمةٍ عندهم (وهي لازالت) ، وهي الأخذُ في فكرهم بما خالفَ العامّة ، والعامّة منهم الزيديّة وغيرهم ، كيفَ يُمكن أن يكون هذا الأساسُ صحيحاً ، وكيف أضمنُ أن يكون كلّ أو أكثر هذا الفكر المُنتقى هُو مُنتقى على قاعدَة المُخالفَة فقط ، ثمّ نظرتُ أئمّتهم في واقعم على غير اعتقادهم بل كانوا كياناً واحداً مع بني عُمومتهم من سادات بني الحسن والحسين (ع) ، لستُ في صدد الاستطراد في توهين فكر الإمامية ، بل في صدد رحلةٍ فعلية حصلَت معي ، ولا أخفي بأنّن مرّات شيءٌ بداخلي كان يُريدُ أن ترجح كفّة الإماميّة ، ولكن لم أستطعْ ، لذلك كانت قراءتي لفكرهِم أكثر من الزيدية آنذاك .

عدتُ أنظر طريقة أئمّة الزيدية وعُلمائِهم ، فوجدتُ أنّه فكرٌ في تركيبته وقوامُه لا يقومُ به الآحاد ، فهُناك للواحد المجتهد منهم مساحة حرّة اجتهاديّة حتّى وجدتهم ينتهون إلى قواعِد ومنهج لا يتجاوزونه إذا بلغوه ، وهو إجماعُ سلفِهم من بني الحسن والحسين ، وهذا تتبّع أستطيعُ أن أثبتَه بكلامٍ يطول حتّى أنّه ما بقي كتابٌ أعلمه لمُتقدّميهم ما قرأته تتبّعاً ، وتتبّعت عقائد الإمامين الباقر والصّادق صلوات الله عليهما في كُتب الزيدية ، وغيرها ، أو سأقول أكثرها إبراء للذمّة ، وقد بيّنت وجوهاً من ذلك في نقاشات ورُدود ، فقط كانت تلك رحلة مُضنية ، كلّ ذلك وأنا أناقشُ الأصحاب في (شقة الغُربة الجامعيّة) ، والوالد (رحمه الله) ، وكُنت قد وقفتُ على كُتب الحافظ ابن الوزير محمد بن إبراهيم رحمه الله ، قرأتُ أغلبها ، وكُتب العلامة المَقبلي ، وكُنت أدوّن كثيراً ، أُلخّص الكُتب ، ونتيجَة هذا اختصاراً ، كانت الزيدية منهجاً ، من جهلهُ جهل الزيدية .

عُدت أشكّ ، وأطلبُ اليقين ، فقلتُ أبحثُ عن شواهد قول الزيدية في كُتب الأمّة ، فخرجت من ذلك بما زاد يقيني ، ثمّ كان في ذلك مُنتدى مجالس آل محمّد (عادت بركاته) بوجود أساتذة زيدية ، وكانَ هناك قامات وهامات من المُخالفين ، أشاعرة ، وإمامية ، ومعتزلة ، وبعض الأصحاب من الزيدية الذين كانت لهم أفكار تخصّهم قد تخرج عن فكر الزيدية ، وكانت نقاشات جادّة ، وكانت تتطاحَن العُقول حقّاً لتُخرج البُرَّ هنيئاً مريئاً للباحثين . كان مستواي الدراسي الهندسي يزدادُ في النّزول (المُعدّل) . وكنتُ كلّ مرّةٍ أعودُ فيها إفي الإجازة إلى المنزل ، أصبح الانسجام وعلاقة الصّداقة تزداد بيني وبين والدي لمّا كانَ هُناك شيءٌ حقيقيٌّ مُشتركٌ في القضيّة الفكريّة ، وكُنت أكتبُ وأطُلعه على الرّدود ، وكان يُصحّح معي بقلمه الأحمر الذي لا يُفارقه . الحاصلُ ممّا سبقَ وإخوة البحث يرون ردُود الفقير ونقاشاته هُو قد يتبادرُ إلى أذهانهم أنّ ذلك تعصّب ، وقد يعلمُ الله حقيقة ما اجتهدتُ البحث فيه ، ثمّ يقيني أنّ آخرين لهم رحلاتهم ، فقط أنا أتكلّم عن نفسي هُنا .

أطلتُ ، وهي مُشاركَة وجدانيّة مع إخوةٍ وأحبّةٍ ، ولعلّي أعودُ بتمام ما سبق إن شاء الله …

اللهمّ صلّ وسلّم على محمّد وعلى آل محمّد …